يكرر سكان قرية شما الحديث عن "الشهيد محمد عيسى العليمي"، كلما سألتهم المنصة عن رأيهم في مبادرة تنمية القرى الريفية حياة كريمة، فقد كان بجانب عمله في "المعمار" عامل تركيب بلاط، ناشطًا في جمع التبرعات من أجل تطوير قريته، وساهم في بناء مدرسة ووحدة غسيل كلى، لذلك يضعون اسمه وصورته على أحد مداخل القرية.
بمثل هذه المبادرات استطاع سكان القرية، التابعة لمركز أشمون بالمنوفية، إنشاء العديد من الخدمات الضرورية في ظل غياب واضح لدور الدولة. ومع إحساسهم بعودة الدولة مجددًا من خلال هذا المشروع القومي، كان هناك تفاؤلًا ممزوجًا بالقلق، فأوناش الدولة تبني وتهدم بسرعة لكنها لا تقدر بالضرورة على حل كل معضلات التنمية.
بقدر ما لاقت مبادرة حياة كريمة حالة من الاحتفاء لالتفاتها إلى الريف، حذر خبراء من أن تركز على "الإنشاءات" دون أن تطور من مستوى الخدمات بشكل كافٍ، وشعرنا أن تحذيرات الخبراء في محلها ونحن نتجول في "شما" ونتابع أعمال التطوير القائمة فيها.
التنمية بالإنشاءات
أول شاب التقت به المنصة في شما لم يكن مندهشًا من اهتمامنا بزيارة القرية، حيث يقول أحمد حسن إنه التقى بالعديد من الإعلاميين ممن قاموا بزيارات مماثلة في أعقاب زيارة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لها مارس/ أذار الماضي.
وجاءت زيارة مدبولي للقرية بهدف تفقد أعمال التطوير الجارية فيها، حيث تقدم الدولة "شما" كنموذج مثالي لأعمال الإصلاح المنتظرة من مبادرة حياة كريمة.
اختيار الدولة لشما يمكن عزوه لعدة أسباب، منها قربها من الطريق الإقليمي، فهي لا تبعد عنه إلا ثلاثة كيلومترات، وبالتالي من السهل الوصول إليها، كما أن حالة الخدمات العامة فيها ليست شديدة التدهور مثل العديد من القرى الأخرى، ما يجعلها هدفًا أسهل للتطوير.
يقول جمال كامل، أحد سكان القرية "صحيح إحنا قرية على قد حالها لكن برضه إحنا عندنا صرف صحي في الشوارع الرئيسية من التسعينيات، وعندنا مياه شرب".
ويضيف "عندنا ناس كتير بتعمل خير والشباب ربنا يبارك فيهم عملوا كتير للبلد قبل مبادرة رئيس الجمهورية".
وأثناء تجوالنا في القرية لاحظنا وجود وحدة مطافئ ونقطة شرطة ومكتب بريد ومدرسة ثانوي عام وأخرى ثانوي تجاري، وأربع مدارس ابتدائي، وثلاث مدارس إعدادي، ومعهد تعليم أزهري.
ورغم أن تحديات التطوير في القرية ليست بالكبيرة، لكن يظل يهيمن عليها إلى الآن الملامح البائسة للريف المصري، فأول ما يقابلك على مدخل القرية مجرى مكشوف للصرف الصحي، يطلقون عليه "المصرف"، وعلى جانبيه تتراكم أكوام من القمامة وحيوانات نافقة، ويشق القرية طريق رئيسي، تتفرع منه شوارع ضيقة، متداخلة وغير ممهدة.
وما أن تتوغل داخل القرية ستجد بسهولة بعض من أعمال التطوير الجارية، واحدة من أبرزها أعمال تجديد المدارس، كما يحدث في مدرسة الشهيد سامح طاحون، ومدرسة عبد السلام وهبة، حيث يتم رفع كفاءة المباني القائمة وإنشاء مبانٍ جديدة ملحقة بالمدرسة بهدف التوسع في الفصول، بالإضافة لمدرسة الشهداء التي سيتم إنشاءها على 2100 متر.
لكن علاج مشكلة نقص الفصول يتم على حساب مشكلات أخرى، كما يقول أحمد حسن، "يتم إنشاء المبنى الجديد لمدرسة سامح طاحون في فناء المدرسة، وبالتالي لن يكون هناك متنفس للتلاميذ، كان يجب مراعاة ذلك أثناء التفكير في هذه الأعمال".
تعكس تجربة مدرسة سامح طاحون، واحدة من مشكلات سوء التخطيط في مصر المتراكمة عبر عقود،"لا تتوافر مساحات ونحتاج لإضافة فصول إلى المدرسة بسبب الكثافة المرتفعة" كما يقول موظف بالوحدة المحلية بشما للمنصة، مضيفًا "عندما استطعنا توفير قطعة أرض لبناء ملحق لمدرسة عبد السلام وهبة، أبقينا على ملعب الكرة في المدرسة".
وبينما يعاني سكان القرية من نقص الخدمات الصحية، يبدو أن المبادرة حتى الآن لم تلتفت لهذا الأمر. حيث تكتفي بتطوير الوحدة الصحية القائمة "سيتم تسليم مبنى الوحدة الصحة إلى الهيئة الهندسية لرفع كفاءتها، وننتظر التنفيذ" كما يقول نادر أبو عامر، رئيس الوحدة المحلية بالقرية للمنصة.
"الحقيقة أن القرية كبيرة وفي احتياج لإنشاء مستشفى كبير"، كما يقول موظف في الوحدة الصحية الواقعة في القرية طلب عدم ذلك اسمه.
وتمثل وحدة صحة شما الجهة الحكومية الوحيدة المقدمة للخدمة الصحية، وتركز خدماتها على العلاجات الأولية وتنظيم الأسرة، وكثيرًا ما يعاني السكان من نقص الكوادر الطبية الكافية، "الوحدة بها أطباء ولكن تخصصات خاصة كطب الأسرة أو تنظيم الأسرة، وعلى فترات متباعدة يأتي أطباء في تخصصات الباطنة وغيرها"، بحسب الموظف.
"أقرب مستشفى من القرية تقع في مدينة أشمون التي تبعد عن القرية حوالي 13 كيلومترًا، وهناك مستشفى أخرى في منوف وتبعد عن القرية حوالي 15 كيلومترًا، وهناك حالات يتم نقلها إلى مستشفى شبين الكوم العام وهي تبعد عن القرية حوالي 35 كيلو" بحسب إسماعيل الشحات، سائق من سكان القرية، للمنصة.
ربما لم يزُر زياد بهاء الدين، الخبير القانوني ونائب رئيس الوزراء الأسبق، مدارس شما أو وحدتها الصحية، لكن تعليقه على مبادرة حياة كريمة في واحدة من مقالاته الأخيرة يبدو وكأنه متطابق مع الحالة التي نحكي عنها.
يقول بهاء الدين في مقاله "بناء المدارس وتدريب المدرسين وتوفير أجهزة الكمبيوتر ليست أهدافًا في حد ذاتها بل وسائل لتحقيق هدف تنموي أسمى. قد يكون الارتفاع بـ "جودة التعليم أو زيادة عدد التلاميذ المواظبين على الحضور أو سد الفجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل أو زيادة الحد من تسرب الفتيات من المدارس.. أو غير ذلك من المؤشرات التنموية القابلة للقياس". وذات الأمر ينطبق على المكونات الأخرى للمبادرة من صحة وسكن ومرافق وإتاحة للتمويل".
قرية جميلة دون عمل
مثل العديد من القرى في مصر هذه الأيام، يترحم كبار السن على زمن كانت الغالبية فيه تعمل في الزراعة أو الحرف اليدوية، الآن هجر الشباب الأرض، وكثير منهم اتجه إلى مهن لا توفر دخلًا مستقرًا "قديمًا كان كل طفل صغير في القرية لدية منوال صغير يتعلم عليه تطريز السيرما (الرسم على القماش بالتطريز)، يخرب بيت التكاتك، دلوقتي بقوا يشتغلوا على التكاتك أكسب" كما يقول محمد عبد السلام، أحد سكان القرية للمنصة.
خلال لقائنا مع مدير الوحدة المحلية، كان يعدد أسماء مشروعات تهدف إلى تحسين مستوى الخدمات أو تجميل شكل القرية، وهو ما رأينا العمل جاري على تنفيذها، لكن تظل التحديات الأكبر تتعلق بالمشروعات المطروحة لتوفير الوظائف، لأنها تحتاج لما هو أكثر من مجرد إنشاء المباني والمكاتب.
بحسب أبو عامر، تشتمل مشروعات حياة كريمة على إقامة محطات صرف صحي، وتبطين الترع وإعادة بناء وتجميل 132 منزلًا، بالإضافة لمشروع مجمع المصالح الحكومية الذي سيضم مركزًا تكنولوجيًا متطورًا، يشمل البريد والشهر العقاري والسجل المدني. ومكتب التموين والمجلس المحلي، ومكتبًا للشؤون الاجتماعية والتضامن.
أما عن المشروعات المرتبطة بالعمل، فهناك مقترح تحت الدراسة بإنشاء مجمع حرفي يشمل مكانًا لتعليم صناعات السيرما والصدف والأباجورات المشهورة بها القرية، والمساعدة على الترويج لها "تم بالفعل عمل الرفع المساحي له، وننتظر تنفيذه"، بحسب رئيس الوحدة المحلية بالقرية.
وهناك مقترح آخر بإنشاء مجمع زراعي يقدم الخدمات للفلاحين "سيكون به التعاون الزراعي ومندوبية البنك الزراعي والوحدة الزراعية والطب البيطري".
لكن يظل التحدي الأساسي أمام هذه المشروعات أن تتمكن من توفير الخبرة الفنية الكافية لسكان القرية من أجل استعادة صناعاتها التراثية وتسويقها للجمهور.
كذلك تظل هناك حاجة لتطوير مستوى الخدمات المقدمة للمزارعين قبل التفكير في إنشاء مبنى يجمع هذه الخدمات في مكان واحد.
يوجد حاليا طبيب بيطري في الوحدة البيطرية، يتابع مع الفلاحين الأمراض التي تصيب المواشي، وتقوم الوحدة بتنظيم قوافل شهرية وأسبوعية لمتابعة هذه الأمراض، وكذلك يوجد مهندس لكل حوض زراعي، لكن هذا التواجد شكلي في النهاية، إذ يكون دور المهندسين الزراعيين متابعة قرارات الدولة بشأن زراعة بعض المحاصيل، بينما يعتمد الفلاحون على ما توارثوه من آبائهم من خبرات في الزراعة، يقول حسن حمدي، أحد المزارعين في القرية للمنصة "يراقب المهندس اللي بنزرعه ويبلغ عن أي مخالف، ويصرف لنا السماد، بس مش هيقولنا نزرع إزاي".
تطوير الخدمات وتوفير الخبرة الفنية سيكون الضمان الأساسي لتحقيق التنمية من وراء حياة كريمة، خاصة أن الوظائف التي ساهم المشروع في خلقها، تتركز حاليًا في مجال أعمال الإنشاءات، التي سرعان ما ستنتهي بانتهاء أعمال المشروع.
يقول عامل في مشروع مجمع الخدمات الحكومية، فضَّل عدم ذكر اسمه "المشروع فتح باب رزق كبير للناس، أنا شغال باليومية، بس الحمد لله أحسن من القعدة في البيت".
يؤكد هذه النقطة أستاذ العلوم السياسية، مصطفى كامل السيد، في مقال له عن حياة كريمة، حيث يشير إلى الحاجة لـ"توفير فرص عمل لا تنتهي الحاجة لها عندما يتم تنفيذ مشروعات حياة كريمة مثل شق الطرق أو بناء المدارس والمستشفيات".
من يقود الأوناش؟
يمكن أن نوجز تجربة "شما" في حياة كريمة أنها تعكس رؤية الدولة الحالية، التي تركز على التوسع في الإنشاءات، ولا تحسِّن من مستوى جودة الخدمات أو تدعم الكوادر المقدمة لهذه الخدمة بالقدر الكافي.
في الوقت الذي تنتقد فيه منظمات حقوقية بشكل متكرر ضعف التمويل المخصص للتعليم والصحة، ما يؤثر على جودة هذه الخدمات، يبدو من بيانات وزارة التخطيط أن لدينا طفرة في الاستثمارات العامة في مجال التشييد خلال السنوات الأخيرة.
وتمثل مبادرة حياة كريمة واحدة من أكبر مجالات هذا الإنفاق، حيث خصصت لها الدولة في خطة 2021-2022 نحو 200 مليار جنيه، أكثر من نصف قيمتها موجه للإنفاق على الصرف الصحي ومياه الشرب.
من يستفيد من حركة اللوادر وأعمال البناء المستمرة ليس فقط سكان القرى، ولكن شركات المقاولات التي تعيش هي الأخرى طفرة في نشاطها الاقتصادي من وراء هذه المشروعات.
اللافتات المعلقة على الأعمال الإنشائية التي تجري حاليًا في قرية شما، تشير إلى أن مالك المشروع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والمقاول العام لتطوير قرى ومركز أشمون شركة مدكور للمشروعات، وصاحبها الدكتور مصطفي مدكور هو من مواليد إحدى قرى مدينة أشمون.
وتعد شركة مدكور نموذجًا للشركات حديثة التأسيس التي استطاعت أن تنمي أعمالها مع طفرة الأنشطة الإنشائية للدولة خلال السنوات الأخيرة.
يقول مدكور في حوار سابق إنه عمل فى مكتب شاكر للاستشارات منذ عام 1987 إلى 2003، وهي الشركة التي أسسها وكان رئيس المجموعة الاستشارية لها منذ عام 1982، المهندس محمد شاكر، وزير الكهرباء والطاقة الحالي، والذي تخلى عن جميع مناصبه بها بعد تكليفه وزيرًا في الحكومة في فبراير/ شباط 2014.
وعمل مدكور مقاولًا مسؤولًا عن شركة مدكور لمشروعات نظم القوي من 2003 حتى 2014 بشراكة مع شركة السويدي، وفي 2014 تخارج من شركة السويدي، ليؤسس شركة مدكور للمشروعات الهندسية المتكاملة، وأول مشروع قامت به الشركة في أكتوبر/تشرين الأول 2014 بعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم بثلاثة شهور، وهو مشروع بناء محطتين كهرباء لمواجهة أزمة الكهرباء التي كانت تعاني منها البلاد وقتها، وتم بالفعل الانتهاء من محطة محولات إمبابة بعد ستة شهور، ومحطة محولات جاردينيا في ثمانية شهور، ودخلتا الخدمة قبل صيف 2015.
وتعمل الشركة حاليًا على عدد كبير من المشروعات المرتبطة بالحكومة، وقال مدكور في حوار له مع صحيفة المال، فبراير/شباط الماضي، إن الشركة انتهت من تنفيذ أكثر من 20 مشروع كبير فى عام 2020، وتسعى لتنفيذ مشروعات كثيرة فى العام الحالى.
طلب أخير
من المستفيد الأكبر من حياة كريمة؟ أهالي القرى أم المقاولون؟ هذا ما سيتحدد بناء على طريقة تنفيذ المشروع، وما إذا كان سيركز فقط على الإنشاءات، أما سيساهم في تحسين مستوى الخدمات وتوفير الوظائف المستدامة.
نجاح حياة كريمة مرهون بقدرة الدولة على التواصل مع أهالي القرى وسماع احتياجاتهم، مثلما فعل محمد عيسى العليمي، وهو يجمع تبرعات الأهالي لاستكمال الخدمات في قريته، أو ما يسمه علماء الاجتماع بـ"التنمية من أسفل".
خاصة وأن ما يطلبه أهل القرية ليس بعيدًا عن أهداف المشروع المعلنة، التي تتضمن "النهوض بجودة خدمات التنمية البشرية" كما تذكر لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان في تقريرها عن المشروع.
ربما يتسق استنتاجنا مع تعليق قاله أحمد حسن، الشاب الذي التقته المنصة في بداية رحلتها، وكان يودعنا قبل أن نستقل ميكروباص على كوبري الثمانية للعودة إلى العاصمة، قائلًا "ما يحدث في قرية شما عمل جبار وحلم جميل لكنه كان سيبقى أجمل لو كانوا بيسمعوا للناس".