رفعت هيئة السكك الحديدية أسعار تذاكر القطارات، أربع مرات، خلال أربع سنوات، متغاضية بذلك عن الطابع الاجتماعي لهذه الخدمة التي يستخدمها أكثر من مليون راكب يوميًا من مختلف الطبقات، وبينما تبرر الحكومة ممثلة في وزارة النقل هذه الزيادات المتوالية برغبتها في إنقاذ المرفق الحيوي من خسائره، تقول مصادر في الهيئة لـ المنصة إن سعر تذكرة القطار بنهاية العام المالي الحالي 2024-2025 سيغطي تكاليف الخدمة.
يُعزى الخروج بالهيئة من دائرة الخسائر أيضًا لقدرتها على تنمية مواردها من أصولها، وإسناد إدارة بعض خدماتها لأول مرة لشركات القطاع الخاص، وغيرها من الإيرادات التي تَظهر من عرض البيانات المالية للهيئة خلال العام المالي الحالي.
لا تجزم المصادر بالهيئة أن الوصول بسعر التذكرة لمستوى التعادل بين المصروفات والإيرادات يعني غلق الباب أمام تحريك سعرها مجددًا خلال الفترة المقبلة، إذ يظل الأمر قرارًا سياسيًا بالأساس أو قد يرتبط بعوامل خارجة عن إرادة الهيئة مثل ارتفاع سعر الوقود المستخدم في تشغيل جرارات القطارات، لكن الوصول بالسعر لمستوى تغطية التكاليف قد يكون دافعًا لتهدئة وتيرة رفع التذكرة خلال الفترة المقبلة، على حد قول المصادر.
تذكرة تغطي التكاليف
على الرغم من أن زيادة الأسعار هي السُنَّة المعتادة في كافة مناحي الحياة في مصر مؤخرًا، لكن أسعار تذاكر السكك الحديد كانت تتسم بقدر كبير من الثبات خلال العقود الماضية، بالنظر إلى دورها الاجتماعي في تأمين وسيلة نقل لشرائح واسعة من مختلف الطبقات.
وخلال السنوات الأخيرة، تحديدًا منذ تولي الفريق كامل الوزير لحقيبة النقل في 2019، شهدت أسعار التذاكر زيادات أسرع من الوتيرة المعتادة، وهو ما عزاه الوزير إلى الرغبة في تغطية خسائر الهيئة الناتجة عن تكاليف التشغيل.
وبدأت رحلة رفع أسعار تذاكر القطار في عهد الوزير في يوليو/تموز 2020 شملت الدرجتين الأولى والثانية في أنواع مرفهة من قطارات الهيئة تستهدف الطبقات الوسطى، تلتها زيادة في يونيو/حزيران 2023 شملت، بجانب القطارات المكيفة والفاخرة، أنواعًا أخرى من القطارات تستخدمها الطبقات الدنيا مثل القطارات الروسية غير المكيفة وقطارات الضواحي المعروفة باسم "تحيا مصر".
12 مليار جنيه إيرادت متوقعة من تذاكر القطارات خلال العام المالي الحالي
وفي يناير/كانون الثاني 2024 زادت أسعار تذاكر قطارات تحيا مصر مرة أخرى، ثم كانت الزيادة الرابعة في عهد الوزير في أغسطس/آب الماضي، وشملت القطارات المكيفة والفاخرة، ولم تنجُ قطارات "تحيا مصر" من هذه الزيادة أيضًا.
ويقول عضو مجلس إدارة بهيئة السكك الحديد لـ المنصة، طلب عدم نشر اسمه، "ستصل الهيئة بنهاية العام المالي الحالي بسعر التذاكر إلى نقطة التعادل بين مصروفات التشغيل للمرفق والإيرادات المحصلة".
ويضيف أنه من المتوقع أن ترتفع إيرادات تذاكر القطارات خلال العام المالي الحالي إلى نحو 12 مليار جنيه، مقارنة بـ10.6 مليار العام الماضي "الـ1.4 مليار الزائدة تمثل حصيلة ارتفاع أسعار التذاكر في أغسطس الماضي".
الهروب من الخسائر
بحسب المصدر، فإن زيادة أسعار التذاكر ستمكن الهيئة من تحقيق أرباح صافية في 2025-2026، بقيمة 500 مليون جنيه، لأول مرة منذ فترة طويلة، لكن إيرادات التذاكر ليست المصدر الوحيد إذ ساهمت مصادر أخرى في تحقيق هذه الأرباح.
ويشرح المصدر أن من الموارد التي ساندت الهيئة هي الأنشطة الاستثمارية للأصول القابلة للاستغلال، وبيع الخردة، والأنشطة الإعلانية بكل أنواعها، التي ساعدت على جمع مبلغ يتراوح من 3.3 إلى 3.5 مليار جنيه على أقل تقدير تزداد سنويًا بنسبة 10%.
تضاف إلى ذلك 5.5 مليار جنيه دعم ستحصل عليها الهيئة من وزارة المالية مقابل دعم اشتراكات الطلاب، وسداد القيمة الحقيقية لخطوط المسافات القصيرة التي تعتمد عليها فئة كبيرة من الركاب، خاصة محدودي الدخل، وذلك ضمن الدعم النقدي الذي توفره الدولة للمواطنين بشكل غير مباشر.
بحساب الحصيلة السابقة سيصل إجمالي دخل الهيئة لحوالي 21 مليار جنيه، تستطيع من خلالها تغطية المصروفات، سواء أجورًا أو قطع غيار، إلى جانب إجراء الصيانة الدورية للخطوط والمحطات القائمة حاليًا، كما أوضح المصدر.
الغرامات والخصخصة
تشديد النقل لقبضتها على المتهربين من غرامات استقلال القطارات من دون تذاكر كان أحد مصادر الإيرادات التي اهتمت بها الوزارة رغم الانتقادات التي وجهت لها، كون بعض المتهربين هم من غير القادرين.
وبدأت الهيئة في 2019 تغليظ غرامات استقلال القطارات من دون تذكرة، لتصل إلى 30 جنيهًا للقطارات VIP، وتتدرج حتى تصل إلى 5 جنيهات في قطارات تحيا مصر، وارتفعت هذه الغرامة في 2021 إلى 100 جنيه و15 جنيهًا للنوعين على التوالي.
هذا بجانب ما فرضته في 2020 من رسوم على متعلقات الركاب التي يزيد وزنها على 12 كيلوجرامًا، تتراوح ما بين 10 جنيهات و140 جنيهًا.
يضاف إلى ما سبق أن الهيئة اتجهت منذ 2022 إلى منح شركات خاصة امتياز إدارة وتشغيل قطارات البضائع لديها، وهو ما سيورد لها خلال العام المالي الحالي إيرادات بنحو 400 مليون جنيه، كما يقول المصدر.
الهيئة جمعت حوالي 35 مليون دولار جنيه بنهاية العام المالي الماضي من الركاب الأجانب
ويشير المصدر أيضًا إلى أن الهيئة أبرمت اتفاقًا مع وزارة المالية يخفف عنها تكاليف خدمة ديونها، إذ ستصبح مسؤولة عن سداد فوائد الديون الخاصة بالمشروعات المولدة للإيرادات، مثل خطوط المواني البحرية والجافة أو القطارات الاقتصادية، بينما ستتولى المالية سداد أقساط هذه الديون.
إيرادات دولارية أيضًا
ويشرح مصدر ثانٍ، وهو عضو في مجلس إدارة الهيئة أيضًا، أن اتجاه الهيئة منذ 2023 لتطبيق تعريفة منفصلة لركاب القطارات المكيفة من العرب والأجانب بالدولار لأول مرة في تاريخ الهيئة، ساهم في خلق مورد دولاري ساعد على تخفيف عبء شراء عربات القطارات الجديدة.
"الهيئة جمعت حوالي 35 مليون دولار بنهاية العام المالي الماضي، يتوقع أن تصل لـ50 مليونًا العام الحالي، حال زيادة أعداد السياحة للسوق المحلية" كما يقول المصدر الذي طلب عدم نشر اسمه.
لا تغطي هذه المبالغ بطبيعة الحال تكاليف صيانة عربات السكك الحديدية، في ظل عمليات التوسع الكبيرة في إدخال عربات جديدة للخدمة خلال عهد الوزير، لكن المصدر يشير إلى أن "جزءًا كبيرًا مما تم استلامه من عربات ما زال في فترة الضمان، ومن ثم فالهيئة ستحصل على إيرادات من دون دفع أي التزامات في الوقت الحالي".
ولفت المصدر إلى أن الهيئة خصصت خلال العام الحالي حوالي 2.8 مليار جنيه لصيانة وقطع غيار للعربات القديمة والجرارات، وسيتم زيادتها سنويًا بنسب تتراوح من 10 إلى 15% حتى لا تتكرر سيناريوهات الماضي بتدهور حالة العربات والاضطرار لشراء عربات جديدة بالعملة الصعبة.
40 ألف عامل خارج الخدمة
رغم التصريحات المتكررة بأن السكة الحديد تعاني من أعباء تكاليف العمالة، فإن الهيئة فقدت خلال الـ10 سنوات الماضية نحو 40 ألف عامل وفني مع انتهاء خدمتهم وإحالتهم إلى المعاش، ليقتصر إجمالي العاملين في الوقت الحالي على 45 ألف موظف على أقصى تقدير، كما يقول مصدر ثالث في مجلس إدارة الهيئة لـ المنصة.
ويضيف "أعداد العمالة كانت تُقدّر بحوالي 85 ألفًا في عام 2011، وهو ما كان يمثل عبئًا على ميزانية الهيئة في ظل ضعف إيراداتها في ذلك الوقت".
ويشير المصدر إلى أن الأعداد الكبيرة للعمالة كانت في وقت تغطي فيه الخطوط الرئيسية 85% فقط من مصروفات تشغيلها وقطارات الضواحي كانت تجمع 30% فقط.
"يعني فيه عجز كبير في الاتنين ونفس الوقت عمالة شغالة بتاخد مرتبات ومفيش إيرادات فلازم يكون في خسائر دا الطبيعي"، كما يضيف المصدر.
ويشرح المصدر الأول أن أجور العاملين في الوقت الراهن تمثل نحو 6 مليارت جنيه من مصروفات الهيئة، وأنه عبر ترشيدها والحد من مصروفات أخرى استطاعت الهيئة أن تجعل المصروفات في موقع متوازن أمام الإيرادات.
مستقبل سعر الطاقة
يظل مستقبل سعر تذكرة القطار مرهونًا بأسعار الطاقة، التي شهدت هي الأخرى زيادات متسارعة خلال السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع الدولار أمام الجنيه.
يوضح المصدر الأول أنه بجانب ديون هيئة السكك الحديدية لبنك الاستثمار القومي، فإن ديون الهيئة لدى وزارة البترول تمثل عبئًا كبيرًا عليها خلال السنوات الماضية "بعد تسوية مديونيات الهيئة لصالح بنك الاستثمار القومي، عملت الهيئة على إبرام اتفاق مماثل مع وزارة البترول لتسوية الديون المتراكمة التي سجلت وفقًا لآخر حصر 6 مليارات جنيه".
ويضيف أن تسوية هذه الديون بدأت بخصم 1.5 مليار جنيه كانت مستحقة للهيئة نظير نقل مواد بترولية لوزارة البترول.
وتابع المصدر الأول، "لما جينا قعدنا حسبنا الموضوع اعتبرنا 1.5 مليار جنيه أول دفعة تسددها الهيئة للبترول، والباقي على دفعات بداية من 2025-2026، وانتهى الموضوع، والتزمنا أنه ما فيش سحب سولار ولا شحوم أو غيره من غير دفع فوري".
يمثل هذا الاتفاق عامل ضغط ملح على الهيئة، إذ إنها لن تتمكن من ترحيل أي زيادة في مصروفات الطاقة في حال ارتفاع أسعار الوقود خلال الفترة المقبلة، ما يعرض سعر التذكرة للارتفاع في حال تغير أسعار الطاقة.
قد تكون هيئة سكك حديدية رابحة مبررًا كافيًا أمام صناع القرار للحد من زيادة أسعار التذكرة، لكن تعديل أسعار الطاقة، الذي بات مرتبطًا بمعادلة سعرية اتفقت عليها الحكومة مع صندوق النقد الدولي، قد يعيدنا إلى مربع غلاء التذكرة من جديد.