عادةً ما يأتي الفساد والفقر متلازمين معًا فنجد البُلدان الأشد فقرًا ضمن الأكثر فسادًا، ولكي نكون واضحين فإن الفساد الذي نقصده هنا هو الذي يجرى تعريفه في أدبيات العلوم السياسية على أنه إساءة استخدام السلطة العامة للدولة بما يخدم المصلحة الخاصة لأفراد أو مجموعات بعينها.
هذا التلازم القوي بين الاثنين، أي الفساد والفقر، يدفع البعض إلى تصور وجود علاقة سببية بينهما، بمعنى أن ضَعف دخول كل من يعملون على السلطة العامة يؤدي بالضرورة لانتشار ممارسات مثل تلقي الرشوة أو الاختلاس من الموارد العامة للدولة، أو ابتزاز المواطنين، بما في ذلك القطاع الخاص، لدفع إتاوات أو بمصادرة ممتلكاتهم.
كذلك يرى البعض أن استشراء الفساد سيؤدي حتمًا إلى التدهور الاقتصادي، بمعنى أن يعزف المواطنون عن الاستثمار، وبالتالي ينخفض الإنتاج أو ينمو بمعدلات متدنية، وتدخل البلاد في دائرة خبيثة يغذي فيها الفساد التراجع الاقتصادي والعكس.
إذا سلّمنا بصحة هذه العلاقة، كيف يمكن لمجتمع ما الفكاك من دائرة خبيثة كهذه؟
غياب المنطق في خطاب المؤسسات الدولية
يقول البنك الدولي، ومعه الكورال المعتاد من المؤسسات الدولية المتبنية للخطاب الاقتصادي النيوليبرالي، أنه لا مفر من إنشاء مؤسسات قوية لإنفاذ القانون وحماية الملكية الخاصة ومكافحة الفساد كي تتمكن الاقتصادات الفقيرة من النمو، ولكن يظل السؤال كيف يمكن بناء مثل تلك المؤسسات الرائعة انطلاقًا من الظرف الجامع بين الفقر والفساد؟
وربما كان اشتراط البنك الدولي وإخوانه بناء مؤسسات تنفذ القانون وتحمي الملكية الخاصة أشبه بما يسمى في علم المنطق بالمصادرة على المطلوب، أي طرح مشكلة العجز عن إنفاذ القانون كحل لنفس المشكلة، على غرار النكتة السخيفة لرجل يعاني من السمنة المفرطة قصد طبيبًا وسأله عن الطول المناسب لوزنه فأجابه الطبيب أن عليه أن يزيد من طوله ليصبح 16 مترًا!
لعل السؤال الأجدر بالطرح هو كيف تمكنت دول تعاني من ارتفاع في معدلات الفساد من رفع معدلات النمو، وبالتالي التغلب على الفقر وخلق بيئة قد تمهد على المدى الطويل للحد من الفساد.
الصين أكثر فسادًا من مصر
ينقلني هذا إلى نقاش كتاب انتهيت منه حديثًا، رغم أنه صادر في 2020 عن جامعة كامبريدج، للباحثة الصينية الأمريكية يوين يوين آنج، وهي متخصصة في الاقتصاد السياسي للصين، تحت عنوان عصر الصين المذَّهب: مفارقة الازدهار الاقتصادي واستشراء الفساد.
تتناول الباحثة مفارقة محيِّرة، وربما صادمة للبعض، خاصة للبنك الدولي، وهي أن الصين جمعت خلال العقود الأربعة الماضية بين معدلات نمو سنوية هي ضمن الأعلى تاريخيًا، نحو 9% سنويًا لمدة أربعين سنة، بما سمح برفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من تعداد السكان الرهيب، من 292 دولارًا في 1985 إلى نحو 13000 في 2024 أي بمقدار نمو نحو 225% في ثلاثة عقود!
تحققت المعجزة الاقتصادية الصينية رغم الارتفاع المزمن في معدلات الفساد، ففي 1998 أفادت قاعدة بيانات منظمة الشفافية العالمية بأن الصين قد سجلت 3.5 نقطة من عشرة، كمعدل لتقدير الفساد ما وضعها في المرتبة رقم 52 على العالم بينما لم تتأخر مصر كثيرًا إذ كان مجموعها 2.9 من 10، وبمرتبة 66، في ذلك التصنيف كانت الدنمارك هي الدولة الأقل فسادًا في العالم برصيد 10 من 10!
لم يتغير الحال كثيرًا في الصين إذ إنه في 2005 احتلت المرتبة رقم 78، ما يعني أن الفساد قد زاد مقارنة بغيرها من البلدان، وبقي مجموعها عند 3.5 من 10 بينما كانت مصر في تلك السنة للمفارقة أقل فسادًا بمجموع 3.4/10 وفي المرتبة رقم 70.
في 2023 تحسن وضع الصين نسبيًا وأصبحت في الوضع رقم 76 بدلًا من 78! وبمعدل فساد تقديري عند 42 من 100، أي 4.2/10. بينما حلت مصر في موضع متأخر كثيرًا وهو 108 بمعدل 35/100، أي 3.5/10. في نفس السنة حلت الدنمارك كذلك في المرتبة الأولى كأقل الدول فسادًا في العالم بمجموع 90/100!
تطرح يوين يوين آنج تساؤلًا في محله، كيف تأتَّى للصين أن تنمو بهذا الشكل المذهل رغم استمرار الفساد بهذه الفظاعة؟
تفسير الظاهرة الصينية
مبدئيًا لا تقلل آنج من خطر الفساد أو من أضراره إنما تقول إن ما يهمها هو كيف تمكنت الصين خلافًا للعديد من الدول النامية الأخرى، من تقليل آثار الفساد على قدرتها على النمو والازدهار.
في ثنايا النقاش بالطبع تشن حملة مدمرة على ترسانة الهري الاستراتيجي حول الفساد والفقر والإصلاح المؤسسي ودولة الحق والقانون، باعتبارها ببساطة شديدة ليست ذات صلة ولا أهمية في بيان العلاقة بين الفساد والنمو والفقر في الحالة الصينية، وما أدراك ما الحالة الصينية، سواء من حيث تعداد السكان، أو من حيث تأثير صعود الصين على هيكل الاقتصاد العالمي.
تقول آنج إن تفسير الحالة الصينية الجامعة بين الفساد والنمو الاقتصادي يمكن بلوغه من خلال التفرقة بين أنواع الفساد، وتقسم الكاتبة أنماط الفساد إلى أربعة، الأول هو اختلاس كبار الموظفين من المال العام، والثاني هو اختلاس صغار الموظفين، والثالث هو الرشوة الصغيرة هنا وهناك عادة إلى صغار الموظفين في المعاملات اليومية والصغيرة، وأخيرًا النوع الرابع وهو ما تطلق عليه "المال مقابل النفاذ" Access money.
يمثل النوع الأخير نمط الفساد المؤسسي المستقر في الحالة الصينية، حسب استنتاجات آنج التي استندت إلى دراسات حالة اعتمدت على عشرات المقابلات الشخصية واستبيان من تصميمها، وتشرح الكاتبة أن الفساد الصيني يقوم بالأساس على تقاسم الأرباح بين القطاع الخاص والهيئات الحكومية مقابل النفاذ للفرص الاقتصادية.
مثال على هذه الممارسات ما تسرده آنج من واقع دراسات لمحليات في مقاطعات صينية حول تأسيس أجهزة حكومية مختلفة لصناديق خاصة تقوم على تحصيل مدفوعات مباشرة من القطاع الخاص جراء العمل في مشروعات بعينها، ومن ثم فإن المبالغ المدفوعة هي نوع من الفساد المقنن نظير الحصول على فرص اقتصادية.
ويضاف لهذه الصناديق اعتماد الإدارات المحلية في الصين على مستوى المحليات والمقاطعات على تحصيل الضرائب لصالح الحكومة المركزية مع الإبقاء على أنصبة منها تبعًا لأدائها الاقتصادي.
المفارقة أن هذا النمط من الفساد يشجع مؤسسات الدولة على تحفيز النمو الاقتصادي لا إحباطه، فمن يقدر على سداد الرسوم والضرائب لهذه الأجهزة هو القطاع الخاص الناجح، لذا يحرص المسؤولون على نجاح أنشطة الأعمال.
ويزيد حافز القائمين على السلطة العامة على تنشيط الاستثمار في ظل ضعف الرواتب الرسمية، التي باتت لا تمثل أكثر من ربع دخول الموظفين في مقابل المصادر الأخرى التي يجمعونها من القطاع الخاص، خاصة في الولايات الناجحة اقتصاديًا.
بل إن الإدارات المحلية دخلت في حالة من التنافس الشديد على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، حتى تحقق دخلًا أكبر، ولا ينجح هذا التنافس إلا بمنح القطاع الخاص فرصًا أكبر للربح.
وتظهر دراسة آنج أنه في الصين مقارنة بحالات مثل الهند وإندونيسيا وروسيا، بكل أسف لم تكن مصر مشمولة بتحليلها، فإن النوع الرابع من الفساد هو الغالب، وهو ربما ما يحل المعضلة المتمثلة في جمع الصين بين معدلات فساد مرتفعة في إجمالها، ومعدلات نمو وتشغيل واستثمار هي الأخرى ظلت مرتفعة طيلة عقود طويلة.
هل يمكن لمصر أن تستفيد من التحليل الذي تقدمه يوين يوين آنج؟ ربما نناقش هذا ببعض التفصيل في مقال مقبل.