تعكس تعاقدات هيئة السلع التموينية لاستيراد القمح في 2024 استفادة الهيئة من زخم انخفاض الأسعار العالمية، لكن خبراء أسواق القمح يرون أنه كان يمكن أن تكون الاستفادة أكبر إذا ما نجحت الهيئة في إدارة عمليات الشراء بطريقة مختلفة.
يحلل هذا التقرير نتائج صفقات استيراد القمح في العام الذي يشرف على نهايته، ويحاول تفسير مدى نجاح أو إخفاق الهيئة في تدبير القمح بأسعار مناسبة، كما يسأل الخبراء عن فرص الحد من فاتورة القمح في العام الجديد.
"التموين" خارج دائرة الاستيراد
بحسب تحليل المنصة لمناقصات هيئة السلع التموينية خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بلغ إجمالي الواردات المتعاقد عليها 3.5 مليون طن، واحتلت روسيا المرتبة الأولى بفارق كبير عن باقي الموردين، بينما جاءت فرنسا في المرتبة الأخيرة.
يأتي ذلك في الوقت الذي اتسمت فيه الأسعار العالمية بالتراجع خلال الأشهر الأخيرة، وحاولت الهيئة استغلال هذا الزخم لتدبير واردات قمح كبيرة بتكلفة أقل، من خلال مناقصة نظمتها في أغسطس/آب الماضي تستهدف شراء كميات غير مسبوقة، نحو 3.8 ملايين طن.
إلا أن عدم تقديم العروض المناسبة انتهى بمناقصة أغسطس لشراء 280 ألف طن فقط أي نحو 7% من الكمية المستهدفة، وهو ما يعد سقطة كبيرة للهيئة كانت من بين أسباب استبعادها من نشاط الاستيراد والاعتماد بدلًا منها على جهاز مستقبل مصر التابع للقوات المسلحة وفق تصريحات أدلى بها خبراء لـ المنصة في وقت سابق.
وبينما لم تصدُر تصريحات رسمية تفسر استبعاد "السلع التموينية" وإحلال جهاز تابع للقوات المسلحة مكانها، أشار رئيس الجمهورية في تصريح قبل أيام للحاجة القوية لتدبير القمح بأقل تكلفة ممكنة، وإعادة ضبط توقيتات الشراء للحصول على أفضل سعر ممكن.
يطرح تصريح الرئيس بشأن الحاجة لخفض تكلفة القمح مع استبعاد "السلع التموينية" تساؤلات بشأن مسؤولية الهيئة عن استيراد القمح بسعر مرتفع.
هل روسيا السبب؟
بمقارنة متوسط أسعار استيراد القمح خلال 2024 مع مؤشر السعر العالمي، يظهر ارتفاع أسعار الاستيراد المصرية خلال بعض الصفقات، ويرى خبراء تحدثوا لـ المنصة أن الاعتماد القوي على روسيا هو أحد أسباب ارتفاع تكلفة القمح المستورد، لكنهم يؤكدون على صعوبة إيجاد بديل للقمح الروسي في الوقت الحالي.
ويقول رئيس شركة يورو كوموديتز لاستيراد الحبوب، خالد عبد المعطي، إن التكلفة العادلة حاليًا للقمح الروسي منذ خروجه من الأرض وحتى وصوله إلى مصر، تُقدر بـ229 دولارًا للطن، لكن عمليًا تستورد مصر طن القمح بسعر زائد عن ذلك بما يتراوح بين 50 إلى 70 دولارًا لكل طن.
ويرى أن السبب وراء ذلك أن هيئة السلع التموينية تشتري في كثير من الأحيان القمح من شركات لا تمثل المُنتج الرئيسي للقمح، لكنها تعمل في تجارة وتصدير القمح، مما يرفع السعر النهائي بسبب عمولة هذه الشركات فوق سعر الحاصلات الأصلي.
ويضيف "في روسيا نحو 624 شركة لها مكاتب في المواني الروسية وتستطيع توفير القمح من الأرض لظهر المركب بدون وسطاء لكن هيئة السلع التموينية اعتادت على الشراء عبر حلقات التداول".
بديل القمح الروسي
بجانب عوامل العرض والطلب المؤثرة على الأسعار، قد تساهم الرسوم التي تفرضها روسيا على صادراتها من القمح أيضًا في زيادة تكلفته النهائية.
وتعيد روسيا تسعير تصدير القمح ومختلف السلع الغذائية أسبوعيًا منذ يونيو/حزيران 2021، وعادة ما تتراوح الزيادة والانخفاض بنسبة لا تزيد عن 10% حسب أسعار عقود التصدير المسجلة في بورصة موسكو، لكن عام 2024 شهد زيادتين استثنائيتين في رسوم الصادرات خلال أكتوبر وديسمبر بنسبة 41% و32% على التوالي.
وحسب تحليل المنصة، فإن أسعار صفقات استيراد القمح الروسي خلال 2024 كانت الأعلى سعرًا، عند 256.3 دولار للطن، ما يزيد عن متوسط أسعار مناشئ أخرى، خاصة أوكرانيا ورومانيا اللتين يمكن الاعتماد عليهما بديلًا للقمح الروسي بسبب قربهما الجغرافي من روسيا ومن ثم تقارب تكاليف الشحن، وبلغ متوسط أسعارهما في العام نفسه 241.2 و 252.9 دولار للطن على التوالي.
انخفاض أسعار المناشئ المنافسة يجعلها بديلًا جيدًا أمام المستورد المصري، لكن محمد مصطفى، تاجر ومستورد للقمح، يشير لصعوبة استبدال القمح الأوكراني بالروسي، إذ اتسمت الصادرات الأوكرانية بالانخفاض هذا العام بسبب سوء استخدام التربة وانخفاض جودة المبيدات والأسمدة في البلاد بسبب ظروف الحرب، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف تأمين الشحنات المصدرة بسبب الحرب أيضًا.
أما رومانيا فتبيع محصولها لبلدان الاتحاد الأوروبي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية لتعويض أوروبا عن نقص الصادرات الروسية إليها، كما يقول مصطفى.
وتبدو فرنسا في ذيل الدول المطروحة لتسعين بها مصر كمورِّد بديل للقمح الروسي، فهي تعاني من انخفاض مستويات إنتاجها وظروف مناخية سيئة هذا العام على وجه التحديد، كما ترتفع أسعار القمح لديها مقارنة بباقي المناشئ المُصَدِّرَة.
ماذا ينتظر "مستقبل مصر"؟
ستكون الأضواء مسلطة على جهاز مستقبل مصر خلال العام المقبل، مع التطلع لدور أكبر للجهاز في خفض أسعار الواردات، لكن يبدو أنه مهمته لن تكن هينة مع احتمالات ارتفاع الأسعار العالمية.
حسب توقعات مؤسسة آي إن جي، سينخفض المخزون العالمي من القمح 3.3% خلال الموسم الذي ينتهي في منتصف 2025، بسبب انخفاض الإنتاج لدى عدة منتجين، من أبرزهم روسيا، ما قد يمهد لزيادة الأسعار.
"سيكون من الصعب تدبير القمح بأسعار أقل من العام الحالي، فالمؤشرات الأولية تشير إلى أسعار عالمية مرتفعة في النصف الأول من 2025، نتيجة تأثير سوء الأحوال الجوية على محصول القمح بالسلب، في بعض الدول وعلى رأسها روسيا" كما يقول مصدر في وزارة الزراعة مطلع على ملف القمح لـ المنصة.
وتتفق توقعات اتحاد مصدّري الحبوب الروس أيضًا مع الرأي السابق حول ارتفاع الأسعار خلال الفترة المقبلة، مرجعًا ذلك إلى انخفاض الإنتاج في سوق البحر الأسود، الذي يشمل روسيا وأوكرانيا ورومانيا ودولًا أخرى.
وفي رد للاتحاد عن سؤال من المنصة عبر حسابه على موقع لينكد إن قال إن جهاز مستقبل مصر طلب من المصدرين الروس عقد صفقات بالأمر المباشر، لكن الروس ستكون قدراتهم محدودة على الاستجابة لهذه الطلبات بسبب انخفاض كوتة التصدير وسوء الأحوال الجوية.
وكانت روسيا خفضت الحصة المسموح بتصديرها من إنتاج القمح المحلي خلال النصف الأول من العام المقبل إلى 10.6 مليون طن، مقابل 29 مليون طن في النصف السابق.
ويرى أستاذ الاقتصاد الزراعي، الدكتور جمال صيام، أن قدرة مصر على تنويع مناشئ استيرادها من القمح ستكون الضامن الأساسي للقدرة على الحصول على هذه السلعة الاستراتيجية بأفضل سعر ممكن.
"عندما تتنوع المناشئ بعد مناقصة أو اثنتين فإن المُصدِّر الأساسي سيكون حريصًا على إرضاء مصر للعودة للسوق المصرية مرة أخرى"، كما يقول صيام.
سيكون 2025 عام اختبار لمدى قدرة المستورد الحكومي المصري على المناورة وخفض فاتورة استيراد القمح، خاصة مع التوجيهات الرئاسية لـ"مستقبل مصر" بالحصول على أفضل الأسعار، لكن التجربة ستواجه تحديات ارتفاع الأسعار العالمية مجددًا وصعوبة إيجابة بديل للقمح الروسي.