في بداية فيلم سيد الخواتم: البرجان، الجزء الثاني من ثلاثية تولكين، يقف فرودو/حامل الخاتم يائسًا أمام العقبات التي تعوق وصوله إلى "موردور"، حيث عليه الذهاب إلى فوهة البركان وإلقاء الخاتم من أجل إنقاذ العالم. ونرى رفيقه في الرحلة يقول "إن هذا هو المكان الوحيد الذي نرغب في الوصول إليه، لكنه المكان الذي لا نعرف السبيل إليه".
ذكرني بهذا المشهد ما قامت به القيادة السياسية في مصر مؤخرًا بإضافة مسؤولية وزارة الصناعة للواء كامل الوزير إلى جانب وزارة النقل. فهذا التوجه يعكس رغبة رئيس الجمهورية في تسريع وتيرة النمو الصناعي، إذ اشتهر "الوزير" في أوساط النخبة الحاكمة بما أنجزه من مشروعات نقل كبرى على غرار المونوريل والقطار السريع.
التطلع إلى تعميق النشاط الصناعي وتوسيع نطاقه ليس جديدًا، وإن ازداد زخمه بعد أزمة الدولار الطاحنة التي نعاني منها منذ 2022. لكن اللافت هو الرهان على "الوزير" لتحقيق هذا الهدف، وهو الفريق الذي جاء من أوساط النخبة الحاكمة، ولم يُعرَف بخبرته في التعامل مع القطاع الخاص الصغير، الذي يمثل العدد الأكبر من المنشآت الصناعية في مصر.
فعلى غرار أسطورة سيد الخواتم/Lord of the Rings، تعرف الحكومة في مصر أنها تحتاج بشدة لتعميق الصناعة، لكن اختيارها لـ"الوزير" يرجّح أنها لا تدرك كيفية تحقيق هذا الهدف.
من يملك النشاط الصناعي في مصر؟
تفيد آخر بيانات تفصيلية أصدرها البنك المركزي المصري عن الناتج المحلي الإجمالي في 2021/ 2022، محسوبًا بتكلفة عناصر الإنتاج، بأن القطاع الخاص حاز على نحو 71% من الناتج، أي ما يفوق الثلثين. وإذا قَصَرنا الحساب على الناتج المحلي الإجمالي دون الصناعات الاستخراجية، التي تهيمن عليها الدولة بحكم كونها ثروات طبيعية، فإن نصيب القطاع الخاص سيرتفع إلى 75%.
وكان نصيب القطاع الخاص ساحقًا بالذات في قطاع الصناعات التحويلية، حيث وصل إلى حوالي 88% من إجمالي الناتج، ما يعني أن الإنتاج والتوزيع والاستثمار والتوظيف في الصناعات التحويلية بيد منتجين ينتمون للقطاع الخاص.
اقتصار التعاون الحكومي مع القطاع الخاص على رأس المال الكبير يسبب مشاكل ليس أقلها تضارب المصالح
يتوزع هؤلاء تحت تصنيفات شتى خاصة فيما يتعلق بالحجم؛ فبعضها شركات كبرى خاصة في القطاعات كثيفة رأس المال والتكنولوجيا، وأغلبها منشآت اقتصادية صغيرة ومتناهية الصغر كحال آلاف الورش ومصانع "بير السلم" في القطاعات كثيفة التوظيف، التي عادة ما تعاني من ضعف الإنتاجية نتيجة عدم النفاذ لرأس المال والتكنولوجيا والمهارات، وأغلبها ضمن القطاع غير الرسمي. وبين هؤلاء وهؤلاء، قلة صغيرة من المنشآت متوسطة الحجم.
تفيد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بأن عدد المنشآت متناهية الصغر بلغ 3.4 مليون في 2022، بينما كان عدد المنشآت الصغيرة 217 ألفًا. أما الشركات المتوسطة، فلم يتجاوز عددها 2200 منشأة، ما يعد دليلًا دامغًا على ما تعانيه غالبية شركات ومنشآت القطاع الخاص من صعوبات في النمو من خلال رفع إنتاجيتها وعدد العاملين لديها.
كيف تخاطب الدولة مصنعي مصر؟
تشير البيانات السابقة إلى ضرورة التنسيق مع القطاع الخاص لإدخال أي تطوير على الصناعات التحويلية، وهي مسألة بالغة التعقيد والحساسية مع غَلبة الأحجام متناهية الصغر على المنشآت العاملة في هذا المجال وكون الكثير منها يعمل بصفة غير رسمية. يقلل ذلك من قدرة مؤسسات الدولة على جمع المعلومات اللازمة لصياغة السياسات الاقتصادية التي تستهدف الصناعات المختلفة.
للحكومة المصرية باعٌ لا بأس به في التنسيق مع القطاع الخاص الكبير، كتجربة زيادة الصادرات المصنعة في العقد الأخير من حكم مبارك عندما تمكنت حكومة رجال الأعمال، عبر التنسيق مع القطاع الخاص في قطاعات صناعية تصديرية بعينها، من تحقيق بعض المنجزات.
لكن اقتصار تعاون الحكومة مع القطاع الخاص على رأس المال الكبير يأتي بمشكلات ليس أقلها تضارب المصالح وشبهات الفساد، وقد طالت فعلًا حكومة أحمد نظيف بين 2004 و2011، وانتهت إلى سلسلة طويلة من المحاكمات والمطاردات ثم المصالحات.
تستلزم التنمية الحقيقية لقطاع الصناعة في مصر وضع سياسات حكومية تستهدف القاعدة العريضة من الشركات والمنشآت الصغيرة، بل ومتناهية الصغر، التي باتت تمثل 98% من منشآت القطاع الخاص في مصر في 2022، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتسهم بنحو 43% من الناتج المحلي الإجمالي.
إن التحدي الأساسي هنا ذو طبيعة مؤسسية، فهو يتعلق بإنشاء قنوات للاتصال والتنسيق وتبادل المعلومات بين مؤسسات الدولة القائمة على صياغة وتطبيق ومراقبة السياسات التي تستهدف التطوير الصناعي، وأصحاب رأس المال المضطلعين بالأنشطة الإنتاجية والتوزيعية.
يجب أن تتنوع تلك القنوات المؤسسية بتنوع أشكال وأحجام وأنشطة القطاع الخاص، فما يصلح للتنسيق مع كبريات شركات الحديد والصلب والبتروكيماويات وصناعة قطع غيار السيارات، سيختلف حتمًا عمَّا يصلح مع مشغل صغير للملابس الجاهزة أو ورشة عائلية لصناعة الأثاث أو إصلاح السيارات.
هنا، لا يتعلق الأمر فقط بتوقيع عقود توريد مع منتجين من القطاع الخاص في مشروعات تقودها وتمولها الدولة، كحال تجارب "الوزير" الصناعية في وزارة النقل، بل أيضًا بالتنسيق بشكل قطاعي على أساس طبيعة الصناعة أو على أساس جغرافي مع المنتجين، بما يسمح لهم بزيادة النفاذ لرأس المال والمهارات والتكنولوجيا، لتحقيق أهداف تضعها الحكومة بالتشاور معهم.
أما أن يتم استحضار منطق تنفيذ المشروعات من أعلى لأسفل، كالذي ميّز نمط الاستثمارات العامة في السنوات القليلة الماضية، فمن شأنه أن يقفز على المعضلة الأساسية المتمثلة في التنسيق مع فاعلي القطاع الخاص بدلًا من تجاهلهم، أو عمل الحكومة بشكل منفرد، وكأنهم ليسوا موجودين رغم أنهم هم القطاع الصناعي.
ولعل تجربة مدينة دمياط للأثاث تقف نذيرًا، إذ اعترف الرئيس السيسي في الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي في 2022 بعدم تحقيق المدينة الهدف منها رغم ضخامة الاستثمارات الحكومية التي ضُخت فيها، عندما قال "عملنا المدينة وأنشأنا الهناجر وعملنا كل الخطوات اللي من خلال تصورنا ممكن تنجح.. لكن أهلنا في دمياط لم ينتقلوا لهناك".
تنمية الصناعة تمر عبر القطاع الخاص، لا من فوقه.