تصميم: يوسف أيمن - المنصة
نعرف جيدًا، كسجناء، أن العودة إلى استعمال الأداة الاحتجاجية نفسها لن يُرتب أي تقدم

داخل السجن لا أحد يسبح في الزمن

منشور السبت 4 يناير 2025

في رواية القوقعة: يوميات متلصص للروائي السوري مصطفى خليفة، يكتب بطلها السجين السياسي المحكوم عليه بثلاثة عشر عامًا في يومياته عن حكمة السجن وطريقة معاملة الزمن داخله؛ "إذا بدأت عدَّ الأيام وتسجيلها خطًا وراء خطٍّ على الحائط، حتمًا سوف تضعف، أو.. تجن".

كل أدوات قياس الزمن التي اخترعها السجن تجرد السجين من قوته، لأنه ليس مكانًا لممارسة الحياة بل لممارسة الموت. يرى السجين حياته خطوطًا مجردة على الحائط بلا كثافة، فيتضاءل أمامها، ليصبح مثل إنسان الكهف القديم الذي رسم فريسته على الحائط.

كانت هذه الخطوط المجردة بمثابة الفريسة/الوحش الذي يحاصر وحدته، فيلوذ بزمن الذكريات الحر، الذي بدوره يعبر سريعًا فوق الملمس الخشن للحاضر، فلا يمنحه تلك الكينونة الهادئة، لذا لا يُحبَّذ للسجين العد أو استخدام أدوات قياس الزمن التي اخترعها السجن، حتى لا يعيد بعث هذا الوحش القديم الكامن في ظلام نفسه.

يضيف "الزمن في السجن زمنان، يستتبعهما إحساسان متناقضان، الزمن الراهن، ثقيل بطيء، والزمن الماضي، ما مضى من أيام وشهور وسنين السجن، زمن خفيف سريع، تنتبه فجأة وتسأل نفسك: ماذا أصبح لي في السجن خمس سنوات، سبع، عشر؟! الحقيقة لم أشعر بهذا الزمن، يا إلهي كيف مضت هذه السنون بسرعة البرق".

شكل مرور الزمن ما يفرق داخل السجن عن خارجه، البطء في الزمن الحاضر، والسرعة في الماضي، الاثنان غير منضبطين على قياس الحياة العادية للسجين، لذا لا مكان للسباحة باستمتاع  في تيار الزمن، هناك ما هو أسرع من زمنه، وأيضًا ما هو أبطأ. يغيب الزمن والإيقاع الخاصان، ويقع السجين في تلك الفجوة بين رحى زمنين لن يتطابقا، فتتولد الحسرة وتفلت الذكريات بلا سكن لها.

هذا البطل هو نفسه الذي قاوم هذه الأعراض التي يسببها زمن السجن، ربما بسبب تهريبه صدفة لساعة يده التي اعتقل بها، وفتحت له ممرًا على الزمن خارجه.

السجن عالم الصغائر

غلاف رواية القوقعة: يوميات متلصص (2007)، للروائي السوري مصطفى خليفة

بينما أطالع الرواية التي يحكي فيها مؤلفها عن تجربة سجنه سياسيًا في سجون ديكتاتورية سوريا الأسد الأب، ويمزج فيها بين تجربته وتجربة سجين سياسي آخر، ويستطرد في بساطة وإيجاز لغويين، سرد مشاهد التعذيب التي تعرضوا لها؛ تتوارد على ذهني أفكار يستفزها هذا القدر المجاني واللامعقول من التعذيب.

هناك في السجن ما يتجاوز التعذيب، رغبة مجانية في الإيذاء تتولد من شكل وتاريخ المكان بوصفه مكانًا ضد الحياة، فتُنسخ كل أدوات الحياة المعتادة وتنقلب لبلوغ هذا الهدف ألا وهو الموت المؤجل، الذي يتجرعه السجين في كل تفاصيل يومه.

ينشأ نظام كامل داخل السجن، في مكان أصبحت فيه السلطة مطلقة في يد أحدهم، بينما الآخر مجرد منها تمامًا. هذا الإطلاق بداية نشأة السلطة الجديدة والنظام الجديد، الذي يتبعها ويتفرع منها، منفصلًا تمامًا عمَّا يحدث في الخارج.

نظام تنحدر فيه كل القيم والمشاعر الإنسانية، وفي انحدارها يُنسج في الظلام هذا النسيج العبثي من التعذيب، والإهانة، والإذلال من طرف السجان، وأيضًا المقاومة والخوف من طرف المسجون.

"السجن عالم الأشياء الصغيرة، عالم الصغائر".

كل شيء يصغر في السجن في طريقه لبلوغ أقصى نقطة في التدني، لفقد قيمته، حيث يبزغ العالم الآخر، الجحيمي، الذي أبحر فيه جلجامش ليسترد صديقه إنكيدو.

هناك ولادة عكسية تحدث داخل هذا الجحيم؛ يقف الفرد على صفيح وجوده الساخن، بلا مشاعر أو أي أمل بالرغبة في الحياة التي فقد معناها.

استثنائية السجن وفرادة مكانه، كونه يخلق نظامًا كاملًا لا يحتاج فيه للخارج وقيمه، بل يبدأ من نفسه، كخالق، بلا مرجع خارجي، يحفر في ظلام الوجود بحثًا عن الغريزة الصافية والدم الصافي والإهانة الصافية.

"إن السجن هو المرأة، غيابها الحارق".

ربما يقصد المؤلف بجانب العلاقة مع الأصل، التي تمثلها المرأة، هو الانفصال عن هذا الأصل الوجودي، بمعنى الموت أو اللاولادة، والعودة بلا أصل، وهي الولادة العكسية، مثل صلاة الميت على الراهب عند دخوله الرهبنة ليولد من جديد، ولادة عكسية ضد الحياة، لكسب الخلود أو الحياة السماوية.

تزييف التاريخ

ارتبطت الديكتاتوريات الحديثة بخلق نظام سجن شبيه لها، بجانب الاستثنائية في التعذيب، فالسجن عبارة عن متاهة/مدينة لا يفك شفرتها إلا هذا النظام شديد التعقيد، الذي خلقها، كأن السجن إحدى عُقده النفسية، وإحدى صوره في المرآة.

هناك مجتمعات صغيرة هامشية تعيش وتتنفس داخل هذه المتاهة/المدينة بعيدًا عن مركز السجن، وهناك من يتحكم ويحفظ تمامًا خرائط الأنفاق والسراديب والبوابات التي تؤدي إليها. تتفرع السلطة في تلك الأنفاق والسراديب، وتتفرع معها أشكال السيطرة والإذلال الذي يمكن أن يصل إلى حد النسيان.

كانت هناك خشية أن يكون النظام الذي انهار في سوريا أخيرًا، أخذ معه الشفرة أو المفتاح الرمزي للسجن وخريطة من يسكنون هذه المدينة/المتاهة. أصبحت هناك خشية من وجود مفقودين قد يموتون جوعًا، بسبب عدم إمكانية الوصول إليهم بعد تحرير السجن من قبضة الأسد الابن.

هؤلاء يظلون على علاقة مقطوعة بالتاريخ الخارجي، فهناك من لم يكن يعرف، عند تحرير السجن وفتح بواباته، بأن الأسد الأب مات، لذا يعيش حياته داخل هذا السجن بتاريخ واحد مستمر لا يتغير، هو تاريخ النسيان، فالسجن ينبني أساسًا في جوهره على مصادرة الزمن الخارجي، والحفاظ على ركود لحظة الزمن الحاضر، وامتلاكه من طرف من يديره.

هناك فيلم ألماني اسمه وداعًا لينين! (2003) يحكي عن امرأة في ألمانيا الشرقية هرب زوجها إلى النصف الغربي، فتفانت في خدمة المجتمع الاشتراكي كنوع من التكفير عن هروب زوجها. ثم تدخل في غيبوبة لثمانية أشهر، لتفيق بعد أن تغير المشهد والتاريخ، معًا، بسقوط سور برلين. فما كان من ابنها إلا أن صنع لأمه زمنها الخاص حتى لا تُصدم؛ فعزلها، وكانت قعيدة في الفراش، تمامًا عن الخارج، وأحاطها بكل ما ينتمي للفترة الاشتراكية، من أدوات ومعلبات وحتى ماركات المخلل، بل وسجَّل برامج وأخبارًا تليفزيونية ليذيعها عليها، حتى يخفي أي تغيير قد يصدمها.

كروكي السجن

من مكانه في ثقب في جدار المهجع، كان بطل القوقعة يتلصص على إحدى ساحات السجن حيث تجرى الإعدامات مرتين في الأسبوع، فهناك ثماني مشانق منصوبة تنتظر الرقاب. من داخل قوقعته ذات الجدارين كما أسماها، فهذا السجين السياسي مسيحي له ميول ماركسية، اعتُقل مع عناصر من جماعات الإخوان المسلمين، الجدار الأول للقوقعة هو كرههم له لكونه مسيحيًا كافرًا، والثاني بسبب خوفه منهم.

يرسم مصطفى خليفة كروكيًا لمدينة السجن الصحراوي كما يرمز له في الرواية، وهو في الأصل سجن تدمر، الذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من 10 آلاف سجين، وينقسم إلى 37 مهجعًا وسبع ساحات، وهناك مهاجع جديدة غير مرقمة، بالإضافة إلى الغرف والزنازين الفرنسية، الباقية من عهد الاستعمار.

الاتصال داخل هذه المدينة يتم بالدق على الحائط، حسب طريقة مورس. فكل مهجع له مجموعة مخصصة في تلقي وإرسال تلك الرموز، ومن ورائهم مجموعة الحفظة، وهكذا يتم الاتصال وتبادل الرأي بين شعب المدينة. هذه الشبكة كانت تغطي أكثر من عشرين مهجعًا. في أوقات الأزمات والأوبئة، وغيرها، كانت الرسائل تتواصل فيما بينها لتقليل آثار المرض، أو للتلصص على الخارج وتقلباته السياسية. طول المهجع حوالي 15 مترًا وعرضه 6 أمتار، وله فتحة في السقف طولها 4 أمتار تسمى الشراقة، مغطاة بالحديد، يراقب منها الحارس المهجع.

الظلام.. الزمن المجمد

تبدأ أحداث رواية تلك العتمة الباهرة للروائي المغربي الطاهر بن جلون، بداية السبعينيات، وهي توثيق روائي لحياة سجين سياسي كان يعمل في الجيش، وغُرّر به من قبل قياداته، في الانقلاب الذي قام به الجنرال أوفقير ضد الملك الحسن السادس في قصر الصخيرات.

قضى هذا المسجون قرابة العشرين عامًا، مع زملائه، في واحد من أقسى السجون المغربية، وهو سجن تزمامارت. 23 سجينًا يعيشون داخل زنزانات صغيرة، يأكلون ويشربون ويقضون حاجتهم في الظلام، ولا يخرجون إلى النور إلا لو مات أحدهم، فيذهبون لدفنه والصلاة عليه. الظلام هو الزمن المجمد الذي يحتفظ بالمشهد ثابتًا.

خلال العشرين عامًا، لم يتبقَّ من تلك المجموعة سوى ثلاثة أحياء فقط، أحدهم بطل الرواية. يخرج البطل من السجن وقد تغيرت شخصيته تمامًا، يريد أن يخبر كل من يراه أنه لم يعد الشخص القديم.

داخل ظلام السجن غالبًا ما يحدث ميلاد جديد. ليس جديدًا بمعنى أنه الأفضل أو الأنقى، ولكن من حيث القدرة على الاستمرار حيًا داخل هذه الظروف الصعبة، التي ستدفع صاحبها إلى كثير من التحولات الجذرية في أفكاره ونظام حياته وطبيعة الأمل الذي يؤمن به. ولادة تمثل شهادة الميلاد الجديدة.

السجن هو المكان الذي تنزع فيه شخصيتك القديمة، والقشرة المزيفة لأفكارك، لتقابل الشيء الجوهري الذي بداخلك، حتى ولو كان وهمًا محضًا، فالسجن من ضمن تجارب الحياة القوية التي تكتشف معدن أفكارك، فداخل هذا الجو المتقشف في كل شيء، الثراء الوحيد هو قدرة الذات على أن تثقب عزلتها وتحلق كفراشة خارج هذا المكان الضيق، وربما تموت أيضًا كفراشة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.