تصميم أحمد بلال، المنصة
المسلخ البشري شاهد على جرائم الأسد التي لا تسقط بالتقادم

كل سجون العرب أوطاني

منشور الخميس 19 ديسمبر 2024

منذ تحرير حلب، التصقت بشاشة الموبايل، وفي الخلفية قنوات التليفزيون العربية والأجنبية، أتابع التطورات بشبق، فاقدًا السيطرة على عواطفي التي أخذت تتأرجح بين التوجس ريبة واليأس، والظلام وخيط النور الذي يجرح العتمة. ثم فقدت السيطرة تمامًا على نفسي مع بداية ظهور صور وفيديوهات السجون.

ظللت على هذه الحال أيامًا حتى بعد تحرير دمشق، أتنقل بين تطبيقات السوشيال ميديا وقنوات تليجرام، متعقبًا الفيديوهات القادمة من سجون سوريا، مشاهد المحررين والعالقين الآخرين، وصور وفيديوهات سجن صيدنايا، أبكي وأضحك لا حزنًا ولا فرحًا.

لم أتمكن من النوم حتى ظهر بيان الخوذ البيضاء بانتهاء عمليات البحث في سجن صيدنايا، مؤكدًا عدم وجود زنازين أو سجون أخرى مخفية. عندها فقط تناولت قرصًا من مهدئ وصفه لي الطبيب النفسي لمواجهة نوبات القلق، ثم انهرت في نوم عميق استمر يومًا. خلال هذا النوم، تداخلت الأحلام بالكوابيس، وقفزت من ذاكرتي صور ومشاهد وأسماء من الماضي. امتزجت الذكريات الشخصية بصور السجناء المحرَّرين الذين رأيتهم.

لم أزُر سوريا قط، لكنني أعرف تلك الحوائط الصفراء المتقشرة وحمامات السجون المتسخة بالدم والأمراض كما لو كنت رأيتها من قبل. عدت إلى دفتر السجن الذي سمحوا لي بالاحتفاظ به ونجحت لاحقًا في تهريبه إلى الخارج. هناك دونت بعض تفاصيل تلك الأيام، محاولًا أن أفهم لماذا أثرت فيّ صور سجون سوريا بهذا الشكل، ولماذا اجتاحني كل هذا الألم.

توليفة من اليوميات

فبراير 2016

حين كنت في قسم بولاق، لاحظ زميل الزنزانة، وكان يحمل لقب "كسح"، تكرار زياراتي من أشخاص "تبدو عليهم الأهمية"، فأنزل بنطاله ليريني آثار الجروح والحروق في خصيتيه حيث كانوا يصعقونه بالكهرباء، بينما امتلأ جسده بالوشوم والجروح؛ إمضاءات تُركت هناك في سجون وأقسام الشرطة. نفس آثار الحروق رأيتها على أجساد المساجين المحررين في سوريا وهم يعرضونها أمام الكاميرات.

أواخر فبراير 2016

بعد ترحيلي إلى سجن عنبر الزراعة في طرة بحلوان، جنوب القاهرة، شاهدت، صباح أول يوم، الجردل الذي يقدمون لنا الفول فيه، وهو الجردل نفسه المستخدم في التنظيف وغسل الحمامات وسلالم السجن.

شاهدت مثله في فيديوهات سجون الأسد. الفرق الوحيد أن جردل الفول في سجن الأسد قُطِّعت عليه الطماطم والخضراوات. كان هذا طعام المساجين، يُقدَّم في أوعية تستخدم بالأساس للتنظيف ومسح الحمامات. حين أُعَلِّق على هذا الأمر بصوت خافت، سيخبرنا زميل في الزنزانة أن هذا أفضل من حال سجون أخرى، ويحكى أنه في أحدها، قبل قدومه إلى هنا، كان السجان يفتح باب الزنزانة، فيسارعون لفرش ورق الجرائد الذي سيرمي الطعام فوقه، وعليهم أن يأكلوه بأيديهم من على الأرض. لا يمكنني القول كالحيوانات، لأن القطة التي أربيها مثلًا لديها طبق.

1 مارس 2016

انقطعت الكهرباء عن السجن لتتوقف المراوح. الزنزانة التي ينام فيها أكثر من 60 سجينًا فوق بعضهم البعض، تتحول إلى فرن نتدافع عند بابه، نتناوب الوقوف بجوار فتحة فيه لنتنفس الهواء. يغمى على سجين تجاوز السبعين، فنطرق على الباب وننادي السجان لأخذ المريض المغمى عليه إلى العيادة.

يسمعنا المساجين في الزنزانة الأخرى، فيصرخون ويخبطون على الأبواب، لكن السجان لا يأتي إلا بعد ساعات. ينظر من خلف الباب، ويقول "أعمل لكم إيه يعني؟". ثم يذهب ليستأذن الضابط ولا يعود، بينما ترتفع أصوات الطرق والنداءات من كل الزنازين، الأصوات نفسها أسمعها من خلف الأبواب بينما الثوار في سوريا يفتحون الأبواب في السجون.

3 مارس 2016

سجلت في الدفتر خوفي من سقوط سقف الزنزانة. كان الجير والإسمنت يسقطان من السقف على وجوهنا وأعيننا ونحن نيام، فننفض الغبار والتراب المتساقطين. في ذلك اليوم سجلت أيضًا أن هناك ثلاثةً على الأقل في زنزانتي يمرون بحالة نفسية وعقلية غير مستقرة، اثنان منهم كان يستحيل التواصل معهما. ثم دونت ملحوظة أخرى عن الخوف، وكيف يمكن أن يعرف المرء في السجن أنه فقد عقله؟! ظل السؤال معلقًا بلا إجابة.

9 مارس 2016

أكتب في دفتري عن صعوبة النوم أحيانًا، إذ وصلتنا دفعة جديدة من السجناء يرفضون الحديث عن المكان الذي أتوا منه، لكن أحدهم تصيبه نوبات من الصراخ والهذيان كل ليلة، يتحدث أثناء نومه، يخرف ويذكر أسماء شخصيات ويترجَّى باشا ما أن يحلّه.

7 مايو 2016

سجلت تفاصيل حملة تفتيش داهمت السجن. أيقَظنا خبطٌ على الأبواب، ثم أُدخلت علينا كلابٌ بوليسية شرسة، ثم جرى اقتيادنا خارج الزنزانة. تلقيت صفعة خفيفة ونصف ركلة، بينما كان حظ آخرين المزيد من الركل والصفعات.

تصل القوة من وزارة الداخلية لاستلام السجن والتفتيش عليه، تُخرجنا من الزنازين، لنُجبر على الجلوس مقرفصين طوال النهار دون أن تلمس مؤخراتنا الأرض. العجائز الذين شكوا من عدم قدرتهم على الجلوس في هذا الوضع، تنهال عليهم صفعات وركلات الضباط، وآخرون أُطلقت الكلاب عليهم. حين أعادونا أخيرًا إلى الزنزانة، كانت كل ثيابنا والفرش التي ننام عليها على الأرض، وفوقها الطعام والزبالة.

أخفيت الدفتر الذي أكتب فيه داخل كيس الوسادة وحمدت الله أنهم لم يجدوه. تذكرت كل هذا الأسبوع الماضي، حين شاهدت فيديو لجنود الاحتلال الإسرائيلي يعرون فيه أسرى فلسطينيين قبل أن تمر الكلاب عليهم لتفتيشهم وفحصهم.

14 مايو 2016

سجلت حالات اختناق نتيجة قيام إدارة السجن برش مبيدات ومضادات للحشرات في ردهات السجن وحديقته. في الليل هربت كل تلك الحشرات داخل الزنازين، توقفت عن محاولة قتل الصراصير والحشرات. فقط أزيحها من على الفرشة أو جسدي إذا هبطت عليه. في تلك الليلة لم أنم، لأني خفت من كابوس الموت اختناقًا بالصراصير، إذ يتداولون قصص اختناق مساجين بعد دخول صرصار أو حشرة إلى أفواههم أثناء النوم.

لأن جميعنا يعلم

بشار الأسد، الرئيس السوري السابق

كل ما سبق هي مختارات مما سجلته في الدفتر الذي حملته معي حين دخلت السجن في 2016، وأنا كنت في أحد "أفخم" السجون المصرية؛ عنبر الزراعة طرة. عدت للدفتر وأنا أشاهد فرحة وذهول المساجين المحررين في سوريا، وفكرت في سجون طرة، ووادي النطرون، ومايو، وبدر وجمصة، وسجون المستقبل والأمل.

رأيت كثيرًا من هؤلاء المساجين يخرجون ذاهلين، بعضهم نسي اسمه، بعضهم نسي اللغة. ورأيت أمثالهم في سجن عنبر الزراعة أو الترحيل على الأقسام وجلسات المحكمة. أحد هؤلاء كان شابًا لا يدرك المرء مما يلفظه سوى كلمات متناثرة عن عدة محاولات انتحار، في إحداها مد يديه وأمسك طرفي سلك الكهرباء الرئيسي الذي يدخل الزنزانة، لتحترق يداه، ولم يأخذوه لزيارة الطبيب أو المستشفى إلا في اليوم التالي.

كان مسجونًا لثلاث سنوات بتهمة التهرب من التجنيد. معظم الشباب المسجونين معنا يقضون أحكامًا عسكرية بهذه التهمة. أفضلهم تعليمًا حاصل على الإعدادية، وجميعهم يعولون أسرهم، ولا يملكون مئات الدولارات يدفعونها لتسوية موقفهم من التجنيد. يلقى القبض عليهم في كمين أثناء عودتهم من شفت 12 ساعة عمل، ثم يُسلَّمون للمحكمة العسكرية ومنها إلى السجن، حيث تضيع ثلاث سنوات من أعمارهم.

وأنا أتابع أخبار سوريا، تقفز على التايم لاين فيديوهات وشهادات لمعتقلين سابقين، أحدها فيديو لمازن حمادة يحكي فيه كيف كانوا يحملون جثة من يموت في الزنزانة ويضعونها وراء جدار المبولة والحمام، تظل الجثة معهم في الزنزانة عدة أيام إلى أن تأتي عربة مغلقة لجمع الجثث من الزنازين.

أتذكر ثلاث حالات "وفاة" شهدتها في السجن، النوم في الزنزانة مع جثة، حتى يأتي "الباشا وكيل النيابة" كما يُسمُّونه، بنفسه، ومعه ضابط المباحث صباح اليوم التالي. يقفان في الخارج، ثم يصدران الأوامر بحمل جثة الميت في البطانية الميري، نشاهد الجثة رمادية تخرج من الزنزانة، في الخفاء يرفع بعضهم سبابته، ونلتزم جميعًا الصمت لأن أي صوت يرتفع بالدعاء يمكن أن يعرض صاحبه للنزول إلى زنزانة الحبس الانفرادي، أو يعرض السجن كله للتكدير.

هذه مشاهد وصور عشتها ورأيتها شخصيًا، غير مئات القصص التي سمعتها من أصحابها ضحايا التعذيب والسجون، أو حكاها ضباط وعساكر يتفاخرون بما فعلوه ويفعلونه. إلى جانب مئات الحالات الموثقة لنساء وأطفال تعرضوا للتعذيب والسجن سنوات من دون تهم أو محاكمة، أو بمحاكمات تصدر أحكامها على العشرات في جلسة واحدة.

كل عام تُنفَّذ في السجون المصرية عشرات الإعدامات، ووفق تقرير منظمة العفو الدولية تحتل مصر المركز الرابع بعد الصين، وإيران، والسعودية، في متوسط عدد الإعدامات السنوية، ناهيك عن أعداد من يموتون في السجون وأماكن الاحتجاز ولا تضاف أسماؤهم لتلك الأعداد.

وفق بيان منظمة الخوذ البيضاء فإن سجن صيدنايا صار خاليًا من المساجين، لكني أفكر في الآلاف في سجن بدر  شرق القاهرة الذي تخرج منه كل فترة صيحات استغاثة المساجين ودموع ورسائل أهالي المعتقلين، الذين قضى بعضهم في السجن أكثر من عشر سنوات.

وبينما يتبدد مفعول الحبة المهدئة، وأنظر إلى العلبة محتارًا متسائلًا ما إذا كان الوضع يحتاج حبة جديدة. أعرف جيدًا لماذا أبكي ولماذا أضحك ولماذا أتأثر بشدة بمشاهد كسر وهدم السجون السورية. فكل المشاهد تذكرني بتجربة سجني أنا أيضًا. ولهذا يفرح الجميع من المحيط للخليج بالمشاهد نفسها، فجميعنا في النهاية نعلم، رغم كل الخلافات السياسية والعقائدية، أن كل سجون العرب أوطاننا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.