في ذكرى مولدي الـ38، أي قبل عامين وأيام معدودات، أرسلتُ، عبر إدارة السجن، رسالةً بخط يدي إلى رئيس قطاع الأمن الوطني، لأسجل موقفي الرافض الخروج من السجن بضغط حكومي أمريكي. وللتوثيق وحقِّ الناس في المعرفة، أنشر نصَّ هذا الخطاب، الذي نجحت في تهريب نسخة طبق الأصل منه لتنتظر نشرها حين يأتي وقتها، وأظنه حان.
نص الخطاب
رسالة مهمة وعاجلة
من/ إسماعيل الإسكندراني، النزيل بسجن مزرعة طرة
إلى/ كل من يهمه الأمر.. أيًا كان موقعه وأيًا كان مقصده*
بخصوص ما تتداوله الصحف اليومية المطبوعة المسموح بالاشتراك بها في السجن بين ثنايا مواد الخبر، وعلى استحياء في طيات مواد الرأي، عن قائمة غير معلنة من ستة عشر (16) اسمًا لسجناء ومحبوسين احتياطيًا، تضغط الإدارة الأمريكية الحالية من أجل الإفراج عنهم أو إخلاء سبيلهم.
وحيث إني معزول عن العالم الخارجي منذ ست سنوات إلا أيامًا معدودات، وليس لي مصادر معلومات سوى هذه الصحف، فما فهمته أنَّ الإدارة الأمريكية قد حجبت مبلغًا معتبرًا (أظنه 130 مائة وثلاثين مليون دولار) من قيمة المساعدات الأمريكية السنوية لمصر، وأنها قد رهنت الإفراج عنه بتحسن أحوال الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد، وأنَّ من بين الأوراق التي يتم التفاوض بها، أو عليها، قائمة الستة عشر اسمًا المشار إليها.
وحيث إن آخر المحطات المهنية التي مررت بها قبل القبض عليّ في نوفمبر 2015 كانت زمالة صحفية وبحثية مرموقة في مركز وودرو ويلسون للعلماء الدوليين بواشنطن العاصمة، وهو أحد أكبر خمسة مراكز بحثية في الولايات المتحدة الأمريكية وأحد العشرة الكبار في العالم أجمع، وفق تصنيف 2015، وكانت زمالتي سببًا مباشرًا في صدور افتتاحية جريدة "واشنطن بوست" تضامنًا معي بالاسم عشية القبض عليّ، فإني أضع احتمالًا، لا يمكنني ترجيحه أو استبعاده، بأن اسمي ربما يكون مدرجًا في تلك القائمة.
أرحّب بالتضامن الإنساني العالمي على أن يكون ذلك من أفرادٍ ومنظمات غير حكومية
فإن لم يكن هذا صحيحًا فليتعبر قارئ هذه الرسالة أن محتواها مجرد تسجيل موقف. أما إذا كان صحيحًا، فرسالتي هذه تتخطى تسجيل المواقف إلى درجة اتخاذ قرار، حتى وإن كنت مقيَّد الحرية!
فبافتراض صحة هذه الاحتمال، فإني أوضح الآتي، وأعلنه وأشدّد عليه:
أولًا: رغم مرارة الظلم الفادح، ومرارة السجن وتقييد الحرية، ورغم الأضرار التي لا تعد ولا تحصى، والتي كان آخرها إصابتي بداء السكري من النوع الثاني حزنًا على وفاة والدتي بعد صراع مرير امتد إلى أربع سنوات مع السرطان الذي تجدد بعد علاجه في المرة الأولى، وذلك في غضون ستة أشهر من تفكك أسرتي بالطلاق بسبب طول فترة سجني.. إلا أنَّ هذه المرارات مجتمعة مع غيرها، مما يضيق المقام بسردها، أهون عليَّ من مرارة الزج باسمي في ضغوط سياسية دولية ترفع رايات المبادئ وهي لا تعرف ولا تعترف سوى بالمصالح.
ثانيًا: أني كإنسان أؤمن بتعدد الهويات، ولا أرى تعارضًا بين اعتزازي بهويتي الوطنية وانتمائي الإنساني الكوكبي العام والأصيل، فإني أرحّب بتضامن الجهود الشعبية والأهلية، المحلية والعالمية، في كافة المجالات التنموية والبيئية والحقوقية والفنية والأدبية والعلمية.
وعليه، فإني أرحّب بالتضامن الإنساني العالمي العابر للحدود الجغرافية والسياسية واللغوية والعرقية والدينية، على أن يكون ذلك من أفرادٍ ومنظمات غير حكومية ترفض التمويل الحكومي والحزبي، وتمارس عملها ضد انتهاكات حكومة الدولة المضيفة للمقر الرئيسي كما تمارسه ضد انتهاكات حكومات الدول الأخرى سواءً بسواء، أو تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة ومجلسها لحقوق الإنسان.
وهو ما يختلف تمامًا وكليًا عن موقفي من استخدام الحكومات، أيًا كانت طريقة وصولها إلى سدة الحكم وشرعيتها الديمقراطية، لورقة حقوق الإنسان في السياسة الدولية. فإذا قبلتُ هذا كنوع من الضغط الدولي المتوافق عليه من أجل مناهضة ووقف جرائم الإبادة والتطهير العرقي وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في حالات معدودة جغرافيًا وتاريخيًا، فلن يكون مقبولًا عندي أن يُتوسّع فيه والنزول به إلى السياسات التمويلية؛ إذْ ربما يكون ذلك ستارًا للتفاوض أو المساومة على شروط تعاقدية مجحفة ليس لها أدنى علاقة بمبادئ الحريات وحقوق الإنسان.
أشرف لي أن أستكمل عقوبتي الظالمة من أن أخرج ممتنًّا لعَلَمٍ سوى علم بلادي
ثالثًا: أني لم يسألني أحد عن وضع اسمي في مثل هذه القائمة. وحقيقةً، لا أعلم إن كان اسمي فيها أم لا. فإن كان فيها، فإنه لن يكون من دواعي سروري، أبدًا، أن أفقد اختياري وحقي في الموافقة أو الاعتراض أو التحفظ على استخدام اسمي، إمعانًا في سلب حريتي وانتهاك حقوقي.
فلو كان بعض الزملاء والأصدقاء المحليين والعالميين قد أسهموا في ذلك بحسن نية وطيب مقصد، وظنًا منهم أنهم بذلك يتضامنون معي ويناضلون من أجل خروجي من سجني، فإني أشكرهم على حسن نواياهم وطيب مقصدهم، وأسجّل هنا أنهم بذلك قد زادوا آلامي ولم يخفّفوا منها، وأضافوا إلى مراراتي ولم يقلّلوها.
رابعًا: أني لا يشرفني أن أخرج من سجني بضغط سياسي دولي منفرد قد يُفهم منه شبهة ارتباط بولاء، سابق أو حالي أو لاحق، بالدولة الضاغطة.
هذا لم يحدث، ولن يحدث. فجميع علاقاتي الإنسانية والمهنية والبحثية العابرة للحدود والبحار كلها علاقات غير حكومية. ومشاعري الإيجابية تجاه المدن والقرى ومجتمعاتها وسكانها وزائريها في أي مكان من العالم ليست ذات صلة بأي موقف سياسي من حكومات تلك البلاد، لا إيجابًا ولا سلبًا.
وأشرف لي، أخلاقيًا ووطنيًا، أن أستكمل مدة عقوبتي الظالمة بالسجن لعشر سنوات، قضيت منها، حتى الآن، واحدًا وسبعين شهرًا وتسعة أيام، من دون جريرة اقترفتها ولا ذنب ارتكبته، من أن أخرج ممتنًّا لعَلَمٍ سوى علم بلادي، الذي أرجوه كفنًا لي.
يشهد الله أني كتبت هذا الخطاب وقد هيأت نفسي لتمام المائة وعشرين شهرًا
بناءً على ما سبق، فإني أحيط قارئ هذه الرسالة علمًا بأني أرفض خروجي بعفو رئاسي أو بغيره في سياق ضغط سياسي منفرد من الولايات المتحدة الأمريكية على مصر، كما أرفض رهن خروجي بإعلان تأييدي للنظام الذي سجنني ظلمًا وصادر المجال العام وقيّد الحريات، سواءً بسواء.
ولا أكتفي بهذه الإحاطة، بل أعلن جاهزيتي التامة للإقرار بذلك كتابةً بخط يدي، وتوثيقًا بالصوت والصورة، إذا لزم الأمر، أو في مقابلة مع ممثلي أية جهة محلية أو عالمية.
وقد عاهدت نفسي أمام الله أن لا أخرج من السجن إلا كما دخلت: مرفوع الرأس، عفيف اليد، شريف السيرة، مرتاح الضمير. وعليه توكلتُ وإليه أنبتُ وإليه المصير.
’’مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍۢ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‘‘
إسماعيل الإسكندراني،
9 نوفمبر 2021
في ذكرى مولده الثامنة والثلاثين.
ولماذا النشر الآن؟
لا أعرف مصير الظرف المغلق على رسالتي، ولا آخِر يدٍ أمسكت بخطابي قبل إعدامه أو حفظه في ملفي، وإن كان أغلب الظن أنه لم يخرج من وزارة الداخلية، ولم ترسل نسخ منه إلى الأجهزة الأخرى. فها هي نسخة علنية للاطلاع عليها، بعد سنتين من إرسالها!
لكن هذا ليس المقصد من نشر نص خطابي هنا، وإنما لي في ذلك غرضان آخران: لأهالي المعتقلين، وللمتشنجين وطنيًا.
أما المكروبون بابتلاء السجن؛ فيشهد الله أني كتبت هذا الخطاب وقد هيأت نفسي لتمام المائة وعشرين شهرًا، وكنت في نهاية السنة السادسة ولا تزال أمامي أربع سنوات، تنتهي بنهاية نوفمبر 2025. ثم تشاء الأقدار أن أخرج بعدها بسنة واحدة، قبل الموعد المتوقع بثلاث سنوات.
وأما المتشنجون وطنيًا، سواءً من رجال الدولة والدولجية كارهي الحريات وحقوق الإنسان، أم من الكمايتة، أبناء "كيميت"، الذين لا يتورعون عن تمني السجن لمن يخالفهم الرأي في من يرونهم رموزًا للوطنية المصرية من رياضيين وممثلين، فلمثل هؤلاء كتبت في السجن رباعية بالعامية قلت فيها:
بيحبّوا الوطن في السلطة واحنا بنحبه في السجون
ولو بدّلنا المواقع حيقولوا: أبو الوطن ملعون
لذيذة وطنيتهم وامتيازاتهم ومزايداتهم..
خلّي المستمع عاقل واعتبروني أنا المجنون!
* أُرسل الخطاب في ظرف مغلق بتاريخ 21 نوفمبر 2021 إلى السيد العميد رئيس مجموعة السجون لرفعه إلى السيد اللواء رئيس قطاع الأمن الوطني، وفي صدره إشارة إلى رغبتي في تمريره إلى من يعنيهم الأمر من الأجهزة الأخرى.