أي حنانٍ وودٍ وتفهمٍ أبداهم محافظ دمشق حديث العهد، ماهر مروان، تجاه العدو الإسرائيلي، في المقابلة التي أجراها مؤخرًا مع إذاعة إن بي آر الحكومية الأمريكية، عندما تحدث عن تفهمه الكامل لقيام جيش الاحتلال بالسيطرة على المزيد من أراضي سوريا وقصف كل الأسلحة الاستراتيجية التي كان يمتلكها جيشها المنحل.
بالطبع لم يكن يتوقع أحد من النظام الجديد المدعوم من تركيا أن يرفع لواء النضال ضد الصهيونية ولم يكد يمضي شهر على الإطاحة بنظام عائلة الأسد الذي دمر البلاد، خاصة على مدى السنوات الأربعة عشر الماضية التي اندلعت خلالها الثورة الشعبية ضد الرئيس الهارب بشار.
لكن الطريقة التي تحدث بها محافظ العاصمة السورية، عديل رئيس الأمر الواقع أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقًا، تعكس سذاجة ودرجة من الاستجداء الرخيص للولايات المتحدة أولًا وقبل كل شيء، عملًا بمنطق أغلب الحكومات العربية، وسيرًا خلفها على الطريق إلى قلب واشنطن مرورًا بتل أبيب.
قليلًا؟
السيد مروان، الذي استقبل فريق الإذاعة الأمريكية في غرفة مكتب ضخمة مُزيّنة بالأرابيسك، أبدى تفهمه للعدوان الإسرائيلي الذي بدأ على سوريا في نفس يوم الإطاحة بالشبل بشار.
وقال لا فض فوه "مفهوم أن الحكومة الإسرائيلية تشعر بالقلق بسبب بعض الفصائل" المنضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام التي قادها الجولاني واتخذت من محافظة إدلب في شمال غرب سوريا على الحدود مع تركيا مقراً لها، ثم أضاف "ممكن في الفترات الأخيرة شعرت (إسرائيل) بالخوف، فتقدمت قليلًا وقصفت قليلًا إلى آخره. هذا الخوف طبيعي".
كما سعى بكل الطرق لطمأنة مخاوف الجار العزيز للنظام الإسلامي المتشدد الجديد، قائلًا "ليس هناك أي خوف تجاه إسرائيل. ليست مشكلتنا مع إسرائيل ولا نريد أن نعبث بما يهدد أمن إسرائيل أو أمن أي دولة. هناك أناس يريدون التعايش ويريدون السلام ولا يريدون النزاعات".
وترجَّى مروان الحكومة الأمريكية أن تعمل على تسهيل علاقات أفضل مع إسرائيل، قائلًا "نحن نريد السلام ولا نستطيع أن نكون ندًّا لإسرائيل أو ندًّا لأحد".
ما لفت انتباه المذيعة الأمريكية التي أجرت اللقاء، أن المحافظ لم يأتِ ولو لمرة على ذكر الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة منذ 15 شهرًا، ولو من باب التضامن الإنساني أو حتى حمرة الخجل.
ففي فقه أولويات السيد المحافظ الإسلامي، الأهم حاليًا هو تثبيت أركان النظام ونيل رضا واشنطن وتل أبيب. كما استرعى انتباهها أنه بينما أبدى مروان كل التفهم لاعتداءات إسرائيل، فإنه تمسك بالتقليد المتشدد بعدم مصافحة النساء من أعضاء الفريق واكتفى بمصافحة الرجال. فإسرائيل حلال حلال، أما مصافحة امرأة فحرام حرام.
وعندما توالت الانتقادات للتصريحات شديدة الرخص التي أدلى بها محافظ دمشق، نفى في تصريحات لاحقة أنه تناول العلاقات السورية-الإسرائيلية من قريب أو بعيد، قائلًا إن ذلك من اختصاص رئيسه الجولاني ووزير الخارجية أسعد الشيباني، أكثر أعضاء الحكومة الجديدة أناقة وحرصًا على ارتداء ربطات العنق الفاخرة في محاولة من النظام الذي كان ينتمي رئيسه حتى سنين قريبة لتنظيمي القاعدة وداعش، لإظهار نفسه بصورة المعتدل اللطيف المنفتح.
طبعًا السيد مروان منعدم الخبرة فاته قبل الإسراع في النفي، أن يراجع نص التقرير الذي أذاعته إن بي آر على موقعها، متضمنًا نصَّ تصريحاته باللغة العربية، وقد نقلت منها الاقتباسات الواردة أعلاه، ولم أترجمها من الإنجليزية. وبالتالي فلا مكان لأي مزاعم بأنه لم يقل ذلك أو بأن ما قاله أسيء ترجمته أو أخرج من سياقه إلخ إلخ.
شعرت بصدمة من وصفه تنفيذ إسرائيل أكثر من 500 غارة جوية على سوريا بـ"قصفت قليلًا"
أما التصريح الأكثر استفزازًا بالنسبة لي، فكان استخدامه مصطلح "تقدمت قليلًا" في حديثه عن احتلال الجيش الصهيوني للمنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل، وهي منطقة تبلغ مساحتها 75 كيلومترًا ويتراوح عرضها بين نحو 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب، وتتضمن جبل الشيخ الذي يبلغ ارتفاعه 2814 مترًا مما يسمح للعدو بالمراقبة الشاملة لدمشق والحدود السورية اللبنانية، والسورية الأردنية.
وسبق لجامعة الدول العربية والخارجية المصرية أن كانتا في مقدمة الأطراف التي أدانت بقوة هذا الاعتداء الإسرائيلي الفج والخرق الفاضح لاتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974.
وشعرت بصدمة من وصفه تنفيذ إسرائيل أكثر من 500 غارة جوية على سوريا بـ"قصفت قليلًا"، في إشارة إلى أنه خلال أقل من أسبوع استهدفت كل طائرات ودبابات وسفن الجيش السوري المنحل، بجانب مراكز للأبحاث زعمت تل أبيب أنها كانت تعمل على إنتاج أسلحة كيماوية. إذا كان هذا "قصفت قليلًا"، فما الذي عليها القيام به لتصبح "قصفت كثيرًا؟!"
رهان فاشل على ترامب
الشرع/الجولاني الذي يُجري العديد من المقابلات الصحفية والتليفزيونية مع وسائل الإعلام العربية والغربية، لا يتحدث بهذه السذاجة الفجة عن حب إسرائيل والرغبة في بناء علاقة جيدة معها لنيل رضا الولايات المتحدة. بل يكتفي في مقابلاته التي يتحدث فيها بصوتٍ هادئٍ، ضمن مساعيه الحثيثة ليُنسِيَ العالم صورته بالعمامة الداعشية واللحية الطويلة التي هذبها مؤخرًا، بالقول إن الاعتداءات الإسرائيلية لم تكن مبررة في ضوء أن بلاده منهكة وغير قادرة على مواجهة أحد، إلى جانب أنه حقق لتل أبيب ما لم تكن تحلم به وتتمناه على مدى السنوات الماضية، بإبعاد القوات الإيرانية ومقاتلي حزب الله، وغيرها من الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية، عن حدود الدولة العبرية.
كما تشير التقارير الصحفية الغربية والإسرائيلية إلى أنه فور استقرار الأوضاع للنظام الجديد، ستتولى "ماما تركيا" مهمة التصدي لمطالبة إسرائيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها، وبالطبع إعادة بناء الجيش السوري وتسليحه على حساب الشعب السوري.
ومن المؤكد أن كل من شاهد الاستعراض العسكري لمقاتلي جبهة تحرير الشام في العاصمة دمشق الأسبوع الماضي سيُقدِّر مدى صعوبة مهمة بناء جيش سوري مجددًا، مع الوضع في الاعتبار أن كل من رأيناهم كانوا حتى أسابيع قليلة مضت مقاتلي ميليشيات إرهابية، وليسوا ضباط جيش نظامي تقليدي مماثل لما تعرفه الدول الحديثة.
وبينما سعى محافظ دمشق إلى تقبيل اللحى ولم ينقصه سوى أن يقول لإسرائيل "والنبي هاتي بوسة" أملًا في أن يؤدي ذلك إلى اعتراف واشنطن والأوروبيين بالنظام الجديد، فإن ورقة المساومة الأخيرة التي تبقى في يد الجولاني/الشرع تتمثل في مستقبل القواعد الروسية العتيدة القائمة في سوريا منذ عقود طويلة. واشتكت موسكو بالفعل مؤخرًا من أن الدول الغربية تضغط على دمشق لتنهي وجود الروس في المياه الدافئة، وهو الأمر الذي قد لا يراه الرئيس المقبل للولايات المتحدة دونالد ترامب مغريًا للغاية عندما يتولى منصبه رسميًا بعد ثلاثة أسابيع.
لكن ترامب أثناء فترة رئاسته الأولى، لم يُبدِ أي اهتمام بسوريا التي وصفها بـ"أرض الرمال والموت" وسعى مرارًا لسحب القوات الأمريكية من هناك. وفور سقوط بشار هذا الشهر، غرد قائلًا إنه لا يوجد لواشنطن مصالح في سوريا وسيكون من الأفضل ترك الأمور تتطور بمفردها هناك.
لن تُجدي محاولات استجداء حب إسرائيل نفعًا مع ترامب كما هو الحال مع إدارة الرئيس المنصرف جو بايدن. فترامب لا يبدي الإعجاب سوى بالمواقف العنترية القوية، أما تصريحات من قِبَل "تقدمت قليلًا.. قصفت قليلًا" التي وردت على لسان الحاج مروان، فلن تؤدي سوى إلى فقدان الاحترام لنظام لا يمانع احتلال أرضه وقصف أسلحة جيشه التي هي ملك الشعب السوري من الأساس، وليست ملك بشار المنهار.