تصميم أحمد بلال، المنصة
بدل الجولاني مظهره وخطابه وارتدى قميص زيلينسكي الذي يحظى بدعم أمريكي

هل تُلدغ الولايات المتحدة من جُحر الجهاديين مجددًا؟

منشور الاثنين 30 ديسمبر 2024

بعد هجمات 11 سبتمبر، غيّرت دوائر صناعة القرار بالولايات المتحدة الأمريكية نهجها في التعاطي مع التنظيمات الإسلامية الأصولية، لتتجه إلى دعم الجماعات "الأكثر اعتدلًا" بديلًا عن المجموعات الجهادية التي تعادي الغرب وتسعى إلى إقامة "إمبراطورية إسلامية من إندونيسيا إلى إسبانيا" بالعنف المسلح.

وفيما كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن يبحث مع مساعديه ومستشاريه استعدادات حملته "الصليبية العالمية على الإرهاب"، التي ستبدأ بالقاعدة ولن تنتهي حتى تطول كل جماعات العنف الأصولي، شَرَعَت مراكز الأبحاث الأمريكية في دراسةِ ومراجعةِ ما جرى، وطرحِ العديد من التصورات والتقديرات للتعامل مع ما سمَّته بـ"التهديد الإسلامي" الذي ساهمت واشنطن في صناعته خلال مراحل سابقة، لكن ما لبث أن انقلب عليها وضربها في عقر دارها.

في كتابها الإسلام الديمقراطي المدني المنشور عام 2003، وصلت الباحثة الأمريكية شيريل بينارد إلى نتيجة مفادها أنه لمواجهة "التهديد الإسلامي" يجب على صُناع القرار الأمريكيين "تحويل الإسلام نفسه إلى أداة تساعد على تحقيق الأغراض السياسية والاقتصادية الأمريكية".

بينارد، وهي زوجة زلماي خليل زاده سفير واشنطن الأسبق في أفغانستان والعراق، اقترحت في كتابها الصادر عن مؤسسة راند للأبحاث الاستراتيجية، عدة توصيات لإنجاز ذلك الهدف، أبرزها أن تدعم الولايات المتحدة "الأصوليين المعتدلين لاعتبارات تكتيكة عابرة"، وتعمل لاحقًا على "صناعة شركاء من الإسلاميين الإصلاحيين"، لضمان بقائهم ضمن فلك السياسات الأمريكية.  

المحاولات الأمريكية لتطويع "الإسلاميين" لم تبدأ بعد زلزال سبتمبر، فواشنطن لم تتوقف منذ بداية الحرب الباردة عن دعم "إسلاميين"؛ أوكلت إليهم مهمة الحفاظ على مصالحها وتنفيذ أجندتها. مرة تراهن على أنظمة رجعية بالشرق الأوسط، وأخرى عن طريق تسليح وتمويل تنظيمات جهادية، وثالثة بدعم جماعات أصولية قادرة على مناكفة الأنظمة المناهضة للسياسات الغربية.

الإسلام الذي تحبه واشنطن

مانشيت الأهرام السادات يؤكد للمجاهدين الأفغان دعم مصر لهم في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي. أبريل 1980

لم يخلُ جراب الولايات المتحدة من تصورات لاستخدام "الإسلاميين"، ولكل مرحلة جماعتها، ولكل غرض تنظيمه. فعندما يكون الهدف حصار النفوذ السوفيتي واستنزاف الأنظمة الرافضة للتوجهات الأمريكية، تنتشر في المساجد والجامعات تنظيمات تدعو إلى محاربة "الإلحاد والشيوعية"، وعندما يتطلب الأمر حمل السلاح لإخراج السوفيت من أفغانستان تؤذن واشنطن في المجاهدين من كل حدب وصوب، فيأتون إلى "أرض الجهاد" أفواجًا لمواجهة "الاحتلال الأحمر"، ولما ارتدت سهام "المجاهدين" إلى قلبها قررت العودة إلى النسخة "الأكثر اعتدالًا".

في يونيو/حزيران 2009، ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما خطابه الشهير بجامعة القاهرة وسط حشد كبير ضم رموز الحزب الوطني الحاكم حينها وقادة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة آنذاك، دعا أوباما في هذا الخطاب إلى "ضرورة مجابهة التطرف العنيف بكافة أشكاله"، ولفت إلى أهمية أن "يلعب الإسلام دورًا مهمًا في دعم السلام بالعالم".

لم يكن الرئيس الأسبق يقصد بحديثه عن "الإسلام"، ذلك الإسلام الحضاري الذي يشكل الهوية الثقافية لشعوب تلك المنطقة التي قاومت على مدار قرون محاولات التغريب والتتريك وثارت ضد الاستعمار بكافة أشكاله، بل الإسلام الذي يقبل بالدوران في الفلك الأمريكي، ويحقق للولايات المتحدة مصالحها، ويضمن لإسرائيل أمنها واستقرارها.

وكما فسدت خلطة "المجاهدين الأصوليين" الذين انقلبوا على "العدو البعيد" الذي وجب قتاله لأنه "سبب مصائب المسلمين"، فشلت بعدها الخطة الأمريكية في دعم وصول "المعتدلين" إلى مقاعد السلطة بالقفز على الثورات واستخدام صناديق الاقتراع. هنا تفتق ذهن صناع الاستراتيجيات في واشنطن عن وصفة "هجين" تقضي بـ"استئناس" أو "ترويض" جماعات "الإرهاب المسلح".

في مداخلة ألقاها قبل أيام، دعا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هيئة تحرير الشام التي أسقطت نظام عائلة الأسد في سوريا، إلى "الوفاء بوعودها بالاعتدال إذا كانت تريد تجنب العزلة المفروضة على حركة طالبان الأفغانية". 

بلينكن لفت إلى أن طالبان أظهرت وجهًا أكثر اعتدالًا عندما سيطرت على أفغانستان، ثم ظهر وجهها الحقيقي، وكانت النتيجة أنها بقيت معزولة على الصعيد الدولي.

بعد 24 ساعة فقط على مداخلة بلينكن، أجرى أبو محمد الجولاني الذي صار أحمد الشرع مقابلة مع شبكة بي بي سي، أكد فيها أنه لا يريد تحويل سوريا إلى نسخة من أفغانستان، "البلدان مختلفان للغاية ولديهما تقاليد مختلفة".

لا يزال مبكرًا الحكم على المسار الذي سيحكم مستقبل سوريا لكن تظل الشكوك تحيط بما يطرحه الجولاني

لم تنس الولايات المتحدة أنها لُدغت من "الجُحر الأفغاني" مرارًا، لذا أراد كبير دبلوماسييها أن يلفت نظر رجال "الهيئة" الذين هجروا "هيئتهم" إلى تداعيات التجربة الأفغانية، فدعم مسارهم مرهون ليس فقط بتصريحات تطمينية يؤكدون فيها أنهم هجروا أفكارهم السابقة وينوون بناء دولة جديدة تسع جميع الأعراق والطوائف، بل بالالتزام بالمسار الذي شاركت في وضعه لهم واشنطن وحلفاؤها في المنطقة.

الولايات المتحدة ليست منشغلة بمستقبل الدولة العربية التي سقط فيها نظام هو النسخة الأسوأ بين الأنظمة الاستبدادية العربية لتحل محله مجموعات ميليشياوية تمتد جذورها إلى داعش والقاعدة، فكل ما يشغل واشنطن هو ضمان مصالحها في المنطقة وحصار نفوذ أعدائها بالمحور الروسي الإيراني والحفاظ على أمن إسرائيل.

أين ينتهي التكتيك؟

تعهدت إدارة سوريا الجديدة بتنفيذ شروط الرعاة الذين أوصولها إلى دمشق؛ فقطعوا طريق الإمداد على المقاومة اللبنانية، وأغلقوا معسكرات تدريب المقاومة الفلسطينية وغضّوا الطرف عن احتلال إسرائيل للأرضي السورية وضرب مقدرات الجيش السوري، ودعوا الولايات المتحدة إلى "تسهيل إقامة علاقات أفضل بين دمشق وتل أبيب"، وفق ما صرح به محافظ دمشق ماهر مروان، صهر الشرع، للإذاعة الوطنية الأمريكية قبل يومين.

لا تجري الرياح مع تلك التنظيمات عادة بما تشتهي السفن، فمن جهة مصالح الرعاة ستتقاطع عندما يحل وقت تقسيم الغنائم، وهو ما بدأ بالفعل في الشمال السوري، إذ لم تتوقف الاشتباكات بين فصائل محسوبة على أنقرة وأخرى ترعاها واشنطن، ومن جهة أخرى لا يمكن لأحد الجزم بأن "الهيئة" وشركاءها انقلبوا على ثوابتهم وعقيدتهم التي تكونت بالنار والدم.

في منتصف عام 2015، وبينما كانت ذراع القاعدة المُسمَّاة جبهة النصرة، قبل أن تصبح لاحقًا هيئة تحرير الشام، تمارس "جهادها" ليس ضد نظام الأسد فحسب بل ضد كل مخالفيها، أجرى زعيمها أبو محمد الجولاني، قبل أن يواجه الإعلام بوجهٍ مكشوف، حوارًا مع عدد من الإعلاميين السوريين في أدلب.

سأل أحد هؤلاء الجولاني "هل لديكم استعداد لتغيير خطابكم السياسي والجهادي أم أنها ثوابت لا تتبدل؟". فأجاب "لدينا ثوابت سياسية منضبطة بضوابط الشرع، وثوابت الشرع لا تتغير أو تتبدل، نحن نقاتل حتى نُحكّم شرع الله في الأرض ولا تغيير في هذا الأمر. لكن هناك مسائل تكتيكية تتغير حسب المعركة والواقع والحادث. أما الثوابت فلا تتبدل".

لا يزال مبكرًا الحكم على المسار الذي سيحكم مستقبل سوريا، لكن تظل الشكوك تحيط بما يطرحه الجولاني ورفاقه من تطمينات وتعهدات، وهل يمكن اعتبارها ضمن المسائل "التكتيكية" التي يفرضها فقه الواقع، أم أنه بدَّل ثوابته كما بدل هيئته وتحول من قائد تنظيم مسلح إلى رجل دولة؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.