سخر كثيرون مؤخرًا على السوشيال ميديا من جدوى وجود حكومة في البلاد إن كانت تطرح إدارة المطارات والأراضي والمستشفيات للغير. هذا الاستنكار في رأيي ليس موجهًا إلى وزارة مدبولي باعتبارها حكومة يراقب المواطنون أداءها، بل إلى الدولة كلها بكافة أجهزتها، فالجميع يعرف أن التحديات الحالية أكبر من أن يُخاطب بها مصطفى مدبولي أو أي وزير آخر، عدا وزير الدفاع بالطبع.
في هذا المقال، سأحاول إجابة السؤال انطلاقًا من اللحظة الراهنة كما هي. لكن علينا أن نخفض توقعاتنا، لأن الاستفادة الحالية التي تعود على المصريين من حكامهم لا تتعدى توفير الحد الأدنى من خدمات الأمن ليس أكثر. هذه الخدمات يراها الحكام الحاليون ثمينة وجليلة، ويهددون الناس طول الوقت بما قد يترتب على غيابها، لدرجة جعلتهم يعتقدون أن مقابلها يجب ألَّا يقل عن السيطرة التامة على أوسع قطاع من السكان.
يمكن للدولة الوطنية الحديثة أن تتحول تدريجيًا إلى مجازها المجرد وجوهرها الصافي، الذي صاغه فلاديمير لينين في كتاب الدولة والثورة؛ مجموعات منظمة من الرجال المسلحين الذين يقيمون ويحرسون عددًا من السجون.
الجذر المعاصر لأزمة الدولة الوطنية في بلدان نامية كثيرة، ومنها مصر، هو تطويع الدولة وإخضاع المجتمع لخدمة مصالح رأسمالية ريعية داخلية لها أشكالها الدولتية والمدنية، وكذلك إلى مصالح رأسمالية استعمارية خارجية إقليمية كانت أم دولية، وذلك على قاعدة وسياسات صندوق النقد والبنك الدولي وعقيدة الليبرالية الجديدة.
بداية العام الماضي، كتب تامر وجيه في موقع صفر مقالًا يستحق القراءة عن الليبرالية الجديدة وأطوارها، باعتبارها المدرسة المهيمنة عالميًا في السياسة والاقتصاد لأكثر من نصف قرن، دخل خلاله الاقتصاد العالمي أزمات كبيرة ومستحكمة وصلت في السنوات العشرة الأخيرة إلى مراحل أكثر تطرفًا واستهتارًا، بشكل أضحى يهدد الإنسانية والسلام العالمي تهديدات وجودية.
في ظل هيمنة الليبرالية الجديدة، يُعاد تشكيل الدولة الوطنية الحديثة باعتبارها في المقام الأول حارسًا أمنيًا شديد الغلظة والقسوة لرأس المال الطفيلي والاستعماري. دور الحراسة هذا يجعل طبيعة تشكيلها الحالي سرية أمن/عسكرية بالتعريف والحصر. هذه الطبيعة هي ما تضع الحدود الفعلية لدور الدولة ومعها حصص وأنصبة رجالها المسلحين في الشراكة، بالشكل الذي يرسم معالم الحياة السياسية وأفق الحريات العامة والفردية في البلد.
قد يقول البعض بحتمية تعارض مصالح الحراس الأمنيين في لحظة معينة مع مصالح الرأسمالية الطفيلية ورأس المال الاستعماري، في ضوء ما يتصوره الطور الحالي من الدولة نصيبًا عادلًا في حصة الشراكة، وهذا وارد طبعًا.
لكنَّ مسار هذا التناقض سيضعف على الأغلب من أدوار الحراسة لصالح خصخصة خدمات الأمن والحماية، بشكل يجمع بين تفتيت المؤسسات الوطنية والتحاق كثير من عناصرها بالقطاع الأمني الخاص المستحدث، مما يفقد الدولة آخر بناء بدائي لها كمجموعة من الرجال المنظمين الذين يحتكرون السلاح والسجون والعقاب.
ومن المهم الإشارة إلى مقال الباحث الاقتصادي أسامة دياب الذي نشرته المنصة هذا الأسبوع، وحاجج فيه الأقوال المكررة التي تربط بشكل مقدس بين الليبرالية الجديدة وحرية المنافسة، موضحًا تهافت هذه الفكرة بأمثلة ثبت معها أن إخضاع كل شيء لمنطق السوق لا يعني بالضرورة أنها سوق حرة تنافسية، بل احتكارية في الغالب.
معنى وطنية الدولة
لم تصبح الدولة في مصر حرة ووطنية عند إعلان استقلالها وسنِّ دستورها الأول عام 1923، ولا مع توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954 أو رحيل آخر جندي بريطاني عن القناة بعدها بعامين. بل عندما نالت استقلال قرارها السياسي والاقتصادي في مسيرة بدأت بعد 23 يوليو 1952.
في هذه السنوات نشأت ما تُسمَّى بـ"الأجهزة السيادية"، التي لم تُسمَّ بهذا الاسم لأنها تحمي السيادة على التراب الوطني بل لأنها تحمي سيادة القرار السياسي والاقتصادي، الذي بلغ ذروته في 26 يوليو/تموز 1956 مع تأميم قناة السويس، ثم بدأ في التراجع تدريجيًا بعد هزيمة يونيو 1967 وعلى مدى عقود، حتى اقتربنا من الوصول إلى قاع الحضيض السيادي.
الأصل في وطنية الدولة المصرية هو في تمثيلها إرادة وأهداف وشعارات الحركة الوطنية المصرية، التي ضحى من أجلها الملايين عبر قرن ونصف القرن من الزمان. هي ليست وطنية فقط لأنها موجودة وتؤدي وظائفها بنجاعة وفاعلية، هي ليست دولة بحكم وجودها المادي الذاتي أو بسلطة الأمر الواقع، بل بتحول جهازها من جهاز دولة احتلال إلى جهاز دولة وطنية طوع أهداف وشعارات الحركة الوطنية المصرية.
الدولة في عهد اللورد كرومر كانت قوية وفعالة بل ورسخت أقدام التحديث والتقدم في مصر، لكنها لم تكن أبدًا وطنية، ولم تعمل لصالح خير وسعادة وتقدم وكرامة السواد الأعظم من المصريين. وبالتالي تقديس وجود الدولة، أي دولة أيًا كانت، وتسويغ هذا الوجود المحض باعتباره أمرًا عظيمًا في ذاته، أو أفضل من اللاشيء، هو محض نفاق واستعباط.
الدولة الوطنية هي التي تعمل من أجل خدمة مصالح وسعادة ورخاء وتقدم الغالبية العظمى من الشعب، هذه هي أجندة الحركة الوطنية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين. واستقلال القرار الوطني يعني تسخيره لعلة وجود الدولة الوطنية الأصلي؛ أي خدمة مصالح الشعب. والتخلي عنه يساوي نفي صفة الوطنية عن أصحابها.
ومن اللافت أن الكثير من العناصر الجاهلة غير المنضبطة للسلطة، استسهلوا في العقد الماضي استخدام سلاح التخوين، وهو سلاح أحمق ذو حدين، لأن الخيانة الوطنية تحددها معايير كثيرة، منها ما ينطبق اليوم على كثير من هؤلاء أنفسهم.
يتناسى البعض أن الجيش المصري هو جيش الشعب، قوامه الاحتياط، وهذه ليست خطابة، فالجيش المصري موجود لأن أغلب أبناء الشعب المصري يؤدون الخدمة الإلزامية في وضع يغلب فيه الرضا على القهر والقسر.
في 10 يونيو/حزيران عام 1967 لم يكن هناك جيش مصري، لم تكن هناك قوات جوية، بل إن هناك من فكر في الانقلاب على جمال عبد الناصر ولم يجد قوات كافية لتنفيذ هذه المهمة. لكن بعد شهور قليلة، كانت مصر تخوض حرب الاستنزاف. لم يكن الأمر سحرًا بالمرة، بل إن الشعب أراد القتال وتحرير الأرض والحفاظ على "دولته الوطنية"، فذهب أبناؤه لأداء الخدمة العسكرية بإرادتهم، من دون وجود قوة قاهرة مادية تجبرهم على ذلك.
ما لا يفهمه كثير من المصريين عن سوريا، أن هروب بشار الأسد حدث بعدما انتفت عن جيشه صفة الوطنية، بتحوله إلى ميليشيا إبادية تملك سلاحًا للجو. لذا مع الوقت تسرب أغلب أبناء الشعب السوري من الجيش ليتحول إلى مجموعات من الشبيحة اختفت في أيام قليلة بعد أن عجزت عن مواجهة ميليشيا إسلامية أكثر تنظيمًا وقبولًا عند قطاعات من السكان.
خلال هذه الفترة، لم تستطع دولة بشار الأسد الإبادية المجرمة إجبار الناس على الالتحاق بالجيش، رغم كل ما تملكه من وسائل القسر والقسوة والجبروت، وأيضًا ما تمنحه من مغريات وامتيازات.
يقسم رئيس الجمهورية بالله العظيم أن يظل محافظًا على النظام الجمهوري، وأن يحترم الدستور والقانون، وأن يرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن يحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه. حسنًا، علينا فيما يبدو أن نُعرِّف النظام الجمهوري من جديد، وما هي نصوص الدستور واستحقاقاته، وما هي مصالح الشعب وما معنى رعايتها كاملة، وما معنى استقلال الوطن، ووحدة وسلامة أراضيه.