تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
أموال الخليج

نيوليبرالية الدولة| أسطورة التنافس والحرية

منشور الأحد 5 يناير 2025

عادة ما يُنظر للنيوليبرالية على أنها نسخة الرأسمالية الأشد نقاءً وقسوةً. فإذا كانت الرأسمالية تعظّم من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فالحكمة السائدة أن النيوليبرالية تذهب بهذا المبدأ إلى مستويات أبعد في العداء للملكية العامة لوسائل الإنتاج، ومن بينها "ملكية الدولة"، وهي ضد تدخل "الدولة" في الاقتصاد بشكل عام.

توصف التحولات التي جرت في الاقتصاد المصري منذ تسعينيات القرن الماضي حتى الوقت الراهن بالحقبة النيوليبرالية في مصر، ولكن كيف يمكننا وصفها بذلك في الوقت الذي كانت فيه رؤوس الأموال الخليجية هي المحرك الرئيسي لهذه التحولات، وأغلب رؤوس الأموال تلك مملوكة لـ"الدول".

تقابلها على الجانب الآخر إدارةٌ ذات طابع "دولتي". فـ"الدولة" في مصر تختار رؤوس الأموال التي ستعمل لديها، وتمنح المزايا والموارد بمعايير انتقائية لدى القائمين على السلطة.

فهل يعني ذلك أنه لا يمكن اعتبار التعاون "الدولتي" المصري-الخليجي، الذي تجلى خلال العقود الأخيرة في صورة استثمارات واسعة النطاق وأعاد تشكيل الاقتصاد المصري، سياسات نيوليبرالية؟ 

النيوليبرلية بمعنى التسليع الاحتكاري

يتفق أغلب المهتمين بالتاريخ الاقتصادي والسياسي المعاصر على أن العصر النيوليبرالي بدأ في سبعينيات القرن الماضي، واشتد عوده في الثمانينيات والتسعينيات مع انتشار برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي.

حدث كل هذا بالتزامن مع الصعود الكبير للساسة النيوليبراليين في المراكز الرأسمالية الكبرى، مثل رونالد ريجان في الولايات المتحدة ومارجريت تاتشر في المملكة المتحدة، وحتى في الكثير من بلدان الجنوب، مثل ديكتاتوريات بينوشيه في تشيلي، وسوهارتو في إندونيسيا، فضلًا عن حكم المجالس العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية.

لكن رغم الاتفاق حول التواريخ هناك اختلاف بشأن التعريفات. فالتعريف السائد يستند عادةً إلى النقاط العشر المكوّنة لـ"إجماع واشنطن"، من بينها عادة ما يتم التركيز على الانضباط المالي (وهو التعبير الملطف للتقشف)، وتحرير التجارة والاستثمار، والخصخصة، وإلغاء القيود التنظيمية.

إخضاع كل شيء لمنطق السوق لا يعني بالضرورة أنها سوق حرة تنافسية بل احتكارية في الغالب

النيوليبرالية مصطلح يحمل دلالة سلبية وقلَّما استُخدم للتوصيف الذاتي. لذا يصعب أن نجد لها تعريفًا لم يخطَّه منتقدوها. لكن إذا نظرنا إلى المعاجم سنجد أن قاموس أوكسفورد يعرِّفها بأنها "نوع من الليبرالية التي تفضل السوق الحرة العالمية دون تنظيم حكومي، وخفض الإنفاق الحكومي، لتكون الشركات والصناعات تحت سيطرة وإدارة ساعية للربح من قِبل مُلاكها الخواص".

أما موسوعة Britannica فتعرفها باعتبارها "أيديولوجية ونموذجًا سياسيًا يؤكد على قيمة المنافسة في السوق الحرة. وعلى الرغم من وجود قدر كبير من الجدل حول السمات المحددة لفكر وممارسة النيوليبرالية، فإنها ترتبط عادة بمبدأ 'دعه يعمل/laissez faire' في الاقتصاد [...] فضلًا عن تأكيدها على الحد الأدنى من تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، والتزامها بحرية التجارة ورأس المال".

في هذين التعريفين تركيز كبير على حرية الأسواق والمنافسة والملكية الخاصة وحرية التجارة وحركة رأس المال، فضلًا عن عدم تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع.

لكن كثيرًا من المعلقين لم يقبلوا هذا التعريف القاموسي المثالي، واعتبروا أن حرية المنافسة الكاملة "أسطورة"، وأن النيوليبرالية في الواقع تتلخص في إخضاع كل شيء لقوى التسليع، وجادلوا بأن النيوليبرالية في التجربة العملية والواقع مختلفة تمامًا، وأن خفض الإنفاق العام وتحرير التجارة والسوق والاستثمار بشكل كامل قلما كانوا من ضمن التحولات النيوليبرالية. 

على سبيل المثال، تُجادل المُنظرِّة السياسية ويندي براون بأن النيوليبرالية تنطوي على إخضاع جميع مناحي الحياة لمنطق السوق والربحية، وتحويل الذوات البشرية إلى فاعلين في السوق بالمقام الأول. أما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في محاضراته الشهيرة عن ميلاد "السياسة الحيوية"، فيقول أيضًا إن النيوليبرالية تحوّل العمال إلى رواد أعمال لأنفسهم، وأن على عكس ليبرالية القرن التاسع عشر التي كانت ترى أن السوق ظاهرة طبيعية كل ما تتطلبه هو عدم تدخل الدولة، تعتمد النيوليبرالية على المؤسسات وأنظمة الحوكمة والقانون لإطلاق قوى التسليع.

أما فيليب ميروفسكي، فيقول إن النيوليبرالية تعطي أولوية لمبادئ السوق فيما يخص إدارة حيوات الناس فوق أي مبادئ أخرى من مبادئ التنظيم الاجتماعي، فضلًا عن كون السوق الحرة؛ هذا الكائن الخرافي الذي لم يتحقق مطلقًا، أداة إبستمولوجية (معرفية) فائقة الكفاءة، تعالج وتقدم المعلومات الاقتصادية بشكل يفوق كثيرًا قدرة الأفراد والمؤسسات حتى في ظل حكم ديمقراطي. ويجادل أخيرًا بأن "الدولة" في ظل النيوليبرالية لا يقل حجمها، كما تذهب التعريفات القاموسية، لكن فقط يُعاد تعريف غرضها.

باختصار؛ إخضاع كل شيء لمنطق السوق لا يعني بالضرورة أن هذه السوق حرةٌ أو تنافسيةٌ، بل في الأغلب تكون احتكاريةً، إذ لا يمكن أن تحدث معدلات التراكم الرأسمالي الحادة، كما جادل المؤرخ الاقتصادي إيمانويل والرشتاين، في ظل تنافس كبير يخفض من هوامش الربح، بالتالي من القدرة على التراكم.

بعبارة أخرى، التسليع والنشاط الاحتكاري لا يتعارضان، فمثلًا لو جرت خصخصة خدمة نقل عامة لصالح شركة واحدة حررت أسعارها، فإن ما حدث هنا هو تحويل هذه الخدمة العامة (التي كانت غالبًا مدعومة لأهميتها الاجتماعية) إلى سلعة مع الحفاظ على وضعها الاحتكاري. تمامًا مثلما سيحدث إذا خضعت هذه الخدمة العامة لتسعير حر يضمن مستويات ربحية عالية، مع بقائها مملوكةً لجهات عامة؛ تسليع خدمة عامة لصالح دعم التراكم الرأسمالي.

النيوليبرالية إذن هي نظام حكم يعيد تنظيم المجتمع وفقًا لمنطق التسليع الاحتكاري بغض النظر عن ثنائية "الدولة" في مواجهة القطاع الخاص، ويعطي أولوية للربح والريع على حساب مكونات التوزيع الأخرى مثل الأجور والضرائب. هي أيضًا نظام حكم يعطي أولوية للربح كمحدد للأنشطة الاجتماعية، فيصبح معه أي نشاط اجتماعي لا يدر ربحًا ويعتمد على مصادر أخرى للتمويل، مثل دعم الدولة أو تمويل الأعضاء، نشاطًا بلا جدوى، أو على الأقل عبئًا على المجتمع. 

وماذا عن نيوليبراليتنا؟

لعل التحولات النيوليبرالية التي شهدتها المنطقة بقيادة بلدان الخليج خير دليل على هذا النمط، فـ"الدولة" هناك لعبت دورًا كبيرًا في مسألة التراكم الرأسمالي من خلال ملكيتها لأغلب شركات النفط والقطاعات الاستراتيجية بشكل عام، بما فيها الاتصالات والتطوير العقاري.

فشركة أرامكو، التي تعد الشركة الأكثر ربحيةً في العالم، 98% منها مملوك للحكومة السعودية. أما STC، أكبر شركة اتصالات خليجية فيملك صندوق الاستثمارات العامة السعودي المملوك للدولة 64% منها، فضلًا عن الاستثمارات الهائلة لهذا الصندوق السيادي بقيمة تقارب التريليون دولار، بالإضافة للصناديق السيادية الأخرى في منطقة الخليج.

تفرض دول الخليج على من يستقبل أموالها شروطًا لا تطبقها هي على نفسها

حتى تاريخيًا، لعبت الاحتكارات دورًا رئيسيًا في تأسيس ليبرالية إنجلترا الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، التي تستلهمها النيوليبرالية. على سبيل المثال أجبرت شركة الهند الشرقية نساجي البنغال الماهرين على بيع منتجاتهم لها فقط، واحتكرت تجارة النسيج، ومَن خالف ذلك كان يُعاقب بدنيًا وماليًا. هذا إلى جانب أن الشركة نفسها لم يكن بإمكانها التمتع بهذا الوضع الاحتكاري دون قوة الدولة العسكرية.

بالنسبة للجانب المتلقي لرأس المال الخليجي، تلعب الدولة دورًا محوريًا في فتح المجال لرؤوس أموال من بلدان معينة وفق اعتبارات سياسية. ولعل المثال الأوضح هنا هو التحول من رأس المال القطري (والتركي) إلى السعودي والإماراتي بعد 2013. فبينما كان نظام الإخوان المسلمين يفضل رأس المال القطري، وكانت قطر راغبة في دعمه من خلال الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، أعادت حكومة ما بعد 2013 لقطر ودائعها، وأعطت في المقابل تسهيلات كبيرة لرؤوس أموال الحلفاء الجدد، على رأسها السعودية والإمارات.

كما هو موضح في الجدول أدناه، أدت التحولات السياسة إلى تغيّرات كبيرة في خريطة البلدان المستثمرة في مصر. فخلال سنة حكم الإخوان المسلمين، انخفضت استثمارات السعودية والإمارات، بينما تضاعفت استثمارات قطر وتركيا أكثر من عشر مرات، لتعاود الهبوط مرة أخرى بعد يونيو/حزيران 2013، لتتضاعف استثمارات السعودية والإمارات.

الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر من السعودية والإمارات وتركيا وقطر من 2011 -  2013 (بالمليون دولار أمريكي)
  السعودية الإمارات تركيا قطر
2011/2012 (ثورة يناير) 240.4 559.8 12.5 34.9
2012/2013 (حكم الرئيس الراحل محمد مرسي) 191.7 480.6 169.2 375.6
المتوسط السنوي خلال السنوات التي تلت 30 يونيو 2013 397.6 987.3 47.1 141.9

كانت السوق المصرية بقدرٍ من الأهمية للسعودية لدرجة أنها طوّرت نسخةً لمسودة قانون استثمار مصري عام 2015، تبنَّى قانون الاستثمار الذي مرره البرلمان عام 2017 أغلب نقاطه، مثل حظر تحريك دعوى جنائية لجرائم الاستثمار في مصر إلا بناءً على طلب وزير الاستثمار، حسب المادة الأخيرة من نص القانون.

نيوليبرالية أصحاب رأس المال.. ومستورديها

دفعتْ فوائض رأس المال الكبيرة بلدان الخليج تجاه خصخصة الأصول في البلدان المحيطة، لكي تستخدم الفوائض لشراء الأصول، بالإضافة إلى الرغبة في إيجاد منافذ لتلك الأصول، ما دفع لإقامة تحالفات سياسية تعطي الأولوية لرؤوس أموالها، وتسمح بحرية انتقائية لحركة رؤوس الأموال. والانتقائية هنا ضرورية بسبب انتشار الفوائض الرأسمالية في الكثير من البلدان والمنافسة بينها على وجود فرص استثمارية مناسبة.

باختصار يعني هذا ترسيخ نموذج تسليع كل شيء، ولكن ليس تحت مظلة سوق حرة تنافسية كما هو مذكور في التعريفات القاموسية أعلاه، لكن في إطار يتيح فرصًا استثماريةً جديدةً لرأس المال الفائض والمدفوع من قبل "الدولة"، سواء كمالك لرؤوس الأموال الفائضة في البلدان المصدرة لرؤوس الأموال، أو كحارس بوابة لرؤوس الأموال في البلاد المستوردة. 

كل هذا لا ينفي صفة النيوليبرالية عن بلدان الخليج، ولا ينفي تأثيرها النيوليبرالي على محيطها الإقليمي، بما فيه مصر، لكنه يدفعنا إلى إعادة تعريف النيوليبرالية وربما الليبرالية بشكل عام.

يجب أيضًا التفرقة بين نيوليبرالية البلدان المصدرة لرأس المال مثل الخليج، وتلك المستقبلة لرأس المال، فكثيرًا ما تفرض الأولى على الثانية شروطًا لا تطبقها هي نفسها، مثل التشجيع على الخصخصة وتقليص العمالة في القطاع العام في حين تحافظ دول الخليج على مستويات عالية من ملكية الدولة، ومن توظيف مواطنيها في وظائف عامة.

يعمل نحو 90% من مواطني بعض دول الخليج في القطاع العام، وبينما تدفع هذه الدول مصر -وغيرها- باتجاه الخصخصة، لا تتبنى هي الخصخصة بالوتيرة نفسها داخل حدودها، وغالبًا ما تُبقي على قطاعات استراتيجية مثل النفط والاتصالات والمرافق تحت السيطرة الكاملة للدولة. في السعودية على سبيل المثال، تصل نسبة ملكية القطاع العام للأسهم المدرجة 83%، وهي النسبة الأعلى في العالم.

باختصار، النيوليبرالية ليست مجرد منظومة اقتصادية قائمة على مبادئ الملكية الخاصة والتنافس، بل منظومة تعيد تشكيل دور الدولة لتكون رأس الحربة في عملية معنية بتسليع كل شيء. لعبت التدخلات الخليجية دورًا كبيرًا في تطور النيوليبرالية المصرية من حيث الاتجاه نحو التسليع الذي يسمح بامتصاص فوائضها الرأسمالية، وعززت نمطًا انتقائيًا من الخصخصة وبيع الأصول لخدمة تلك الفوائض.


هذا المقال جزء من سلسلة تنشرها المنصة تباعا، تتطرق لنشأة وتطور النيوليبرالية الفعلية على أرض الواقع في مصر، بعيدًا عن التصورات المثالية عن تراجع دور "الدولة" في الاقتصاد، وإطلاق قوى السوق الحرة والتنافس.