هيمنت على مصر لزمن طويل ومن مناهل خطابية مختلفة توجهات وسياسات تزدري الطبقات العاملة عمومًا، واليسار والاشتراكية تحديدًا، لدرجة العداء، تمدد نطاقها بمرور الزمن ليشمل المثقفين وفئات مختلفة من الطبقات الوسطى، حتى وصلت في السنوات العشر الأخيرة إلى عداء واحتقار للشعب كله، فكانت مصر وأصبحت إيجبت.
لا أقول هذا على سبيل الشكوى أو لعن الأيام، فهذه هي سنن الصراع الاجتماعي في كل المجتمعات والبلدان، لأن الأصل في الاجتماع هو الصراع مهما ادَّعى الجميع رغبتهم في تجنبه أو التحايل على نتائجه.
والتأكيد على ديمومة الصراع هنا ليس ذريعةً لتبرئة الطبقات العاملة واعتبارها ضحيةً دائمةً لا تتحمل نصيبها من المسؤولية عن مصيرها، بل لإيضاح مركزيته كأساس يلعب دورًا حاسمًا في تحديد أفق الممارسة السياسية في مصر.
أدَّعى أن حرمان الطبقة العاملة المصرية من حقها في التنظيم، وما ترتب على ذلك من إفقارها حركيًا وسياسيًا، كان له عظيم الأثر على مجمل تاريخ ممارسة السياسة في مصر الحديثة.
قد يحاجج البعض قائلًا بوجود علاقة شرطية بين درجة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في بلد ما، ومستوى تنظيم الطبقات العاملة فيه. وأنا لا أوافق على هذا الطرح، لأن هناك نماذجَ لبلدان كثيرة تطورت فيها تركيبة الرأسمالية بطريقة شبيهة بمصر، وفي الوقت نفسه كانت الطبقات العاملة فيها أكثر تنظيمًا، ما مكنها من التعبير عن نفسها كقوة اجتماعية أكثر وعيًا بذاتها. المغرب وتونس وتايلاند والفلبين مجرد أمثلة، مثل كوريا الجنوبية والهند وتركيا في أزمنة سابقة.
الطبقات موجودة بقدر ما هي مُنظَّمة. مستويات تنظيمها وتنوعه هما ما يساعدانها على إبداعِ أشكالٍ وتقاليدَ ومؤسَّساتٍ حُرَّة تُعبِّر عنها وتشكل ذاتيتها الاجتماعية، فتستطيع مع الوقت بلورة وعي وذاكرة وتقاليد، ليخلقوا جميعًا في تراكمهم وجودًا اجتماعيًا وممارسات حياتية وشفرات أخلاقية.
هذا المسار هو الذي ينتج ثقافةً وفنًا ورياضاتٍ لها سمات عمالية، يمكن تتبع ذلك بسهولة مع تطور المسيرة التاريخية للطبقة العاملة في إنجلترا وبلدان أخرى. نادي ليفربول مثلًا نادٍ عمالي بامتياز، والبيتلز طالما عرَّف نفسه بأنه فريق موسيقي عمالي المنشأ، بل إن سر تطور جماهيرية رياضات مثل كرة القدم والرجبي هو جذرها العمالي.
والحقيقة أن تاريخ القرن العشرين في مصر كان في جانب منه تاريخ لحرمان الطبقة العاملة من حقها في التنظيم المستقل، الذي يُمكِّنها من خلق هذا التراكم وتلك التقاليد. صحيح أن حق التنظيم المستقل سُلِب من الجميع مع الوقت، لكن نصيب الطبقة العاملة من التركيز كان الأول والأقدم والأكثر استدامة، لقد كان استهدافًا منهجيًا واعيًا من قِبَل الطبقات الحاكمة على مر العصور.
وإذا كانت برجوازية الإمعات في مصر غير منظمة بالشكل الذي يُمكِّنها من القيام بدور سياسي، فضلًا عن طبيعتها الأصلية كصنيعة مرحلية ومستمرة لرأسمالية الدولة والبرجوازية البيروقراطية، كما أوضحت الأسبوع الماضي، فإن مصالحها المادية المباشرة وارتباطها بالسلطة كافيان لبلورة وجودها الاجتماعي في إطار هذه الحدود وبشكل كافٍ لإنتاج تعبيرات ثقافية واجتماعية وأنماط معيشية يمكن تلخيصها في حالة إيجبت المعاصرة.
لكن في المقابل، فإن الطبقات العاملة في مصر منفية الوجود من الأساس؛ فأي شكل من أشكال التنظيم الذي قد يُمكِّنها من التبلور وإنتاج الوعي الذاتي سيعتبر تهديدًا بحدِّ ذاته. لذا ومن باب الاحتياط، ووفقًا لسياسة تجفيف المنابع، تم الحطُّ من وحصار كل من تُشتَّم فيه رائحة ثقافة أو ممارسة أو فنون شعبية أو عمالية، بدعوى كونها غير رفيعة أو غير "أخلاقية"، وربما غير وطنية، وهنا تلاقحت وامتزجت المُحافظَة الدينية مع المصالح البرجوازية المهيمنة على مر قرن ونصف القرن من الزمان.
قمع وعنف ثم احتواء ثم قمع وعنف
من يتغنون بحريات الحقبة الملكية في عشرينيات وثلاثينات القرن العشرين لا يعرفون أوضاع الطبقات العاملة في ظلها. فبعد اجتثاث الحزب الاشتراكي الأول في منتصف العشرينيات بالتنكيل والسجن الطويل، أصبح العمل النقابي مقموعًا تحت حصار دائم، وحُوكم العديد من العمال الساعين لتأسيس تنظيمات نقابية بتهم تشويه سمعة مصر والمس بأولوية القضية الوطنية.
ووصل بؤس الحال إلى أن أحد أمراء الأسرة العلوية من ذوي الميول الفاشية ويدعى النبيل عباس حليم قرر تبني مطالب العمال والقفز على حركتهم المحاصرة وتأسيس حزب باسمهم في مطلع الثلاثينيات.
صحيح أن الطبقة العاملة وتنظيماتها لعبت دورًا حاسمًا في تنظيم الإضراب العام الكبير في 4 مارس/آذار 1946 عبر دورها القيادي في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، إذ لعبت نقابة عمال دور السينما والكمسارية دورًا مهمًا في التنظيم، وصحيح أن اتحادًا مستقلًا للعمال تأسس في أواخر الأربعينيات بقيادة يسارية واعية وضعت نقاطَ برنامجٍ واضحةً لمطالب العمال في مصر، إلا أن تطور الإمكانية التنظيمية والحركية المستقلة للطبقة العاملة لم يدُم طويلًا.
فقد حددت ثورة/انقلاب 23 يوليو بوصلتها السياسية من اللحظة الأولى حين استهلت إثبات سيادة سلطتها على عموم البلاد في أغسطس/آب 1952 بإعدام العاملين الشيوعيين مصطفى خميس ومحمد البقري وهما لم يتجاوزا العشرين من العمر، بسبب مشاركتهما في تنظيم إضراب عمالي في كفر الدوار خلَّف أعمال عنف، فأُحيلا إلى محاكمة عسكرية إجرامية قضت بشنقهما وسط دعم وترحيب متحمس من الناقد الأدبي والمثقف المرموق سيد قطب، الذي أعدمته محكمة استثنائية أخرى تابعة لنفس السلطة بعدها بثلاثة عشر عامًا.
ورغم تلك البداية شديدة الشراسة من سلطة الضباط الأحرار، فإن حركة الطبقة العاملة كانت قد راكمت بالفعل قدرًا من الخبرة والتنظيم مكَّنها من صياغة برنامج مطلبي لها، ما ساعد جمال عبد الناصر على مساومة العمال ومفاوضتهم على تنفيذ عدد لا بأس به من نقاط هذا البرنامج مقابل تخليهم عن استقلال تنظيماتهم النقابية، ليتأسس الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1957 وتتحول الحركة العمالية إلى عصبِ شرعيةٍ أساسيٍّ لدولة يوليو، تحت شعار تحالف قوى الشعب العامل.
تحول العنف العاري إلى سياسة منهجية في قمع الحراك العمالي وبالذات في القطاع الخاص
تغير الوضع مع سياسات الانفتاح الاقتصادي، التي تحوّلت فيها الطبقة العاملة من حليف للنظام إلى عبء عليه. وفي ظل هذا الواقع الجديد، اتَّبع حسني مبارك سياسات تنكيلية باطشة ضد العمال. فبقدر ما حاول احتواء الأَمزِجَة السياسية داخل الطبقة الوسطى والسماح بهامش من حرية الصحافة والإعلام، راح يتعامل بمنتهى القسوة والعنف مع أي تحرُّكٍ عمالي كبير في بداية عهده، فقَمَعَ إضرابات عمال السكة الحديد عام 1986 وعمال مصانع الحديد والصلب في حلوان عام 1989 بمنتهى الوحشية، خلَّفَت قتيلًا على الأقل في كل إضراب. بل إن وزير الداخلية زكي بدر شنَّ حملة أمنية عنيفة على المثقفين اليساريين المتضامنين مع الحركة العمالية، وصَلَت إلى حد تعذيب المُفكِّر الراحل محمد السيد سعيد وكثيرين معه بطريقة وحشية في سجن أبو زعبل عام 1989.
لكن المحطة الأشد عنفًا كانت قمعَ إضراب عمال كفر الدوار في خريف 1994، ليتحول إلى انتفاضة شعبية في المدينة كلها خلَّفت أربعة قتلى و60 مصابًا و75 معتقلًا. كان تكتيك مبارك واضحًا وذكيًا على المستويين السياسي والأمني: فَتحُ مجال للتنفيس الخطابي السياسي والإعلامي للطبقة الوسطى المُنهَكَة، وقمعُ أي تحرُّك كادحٍ من أسفل قمعًا شديدًا.
تحول العنف العاري إلى سياسة منهجية في قمع حركة الطبقة العاملة، وبالذات عمال القطاع الخاص، ومعها حركات دعمها، وما تعرَّض له الباحث والناشط اليساري الإيطالي جوليو ريجيني من تعذيب وتصفية قبل عشر سنوات بعد محاولة اتصاله بنقابة الباعة الجائلين ليس بعيدًا.
طبقة عاملة.. بل طبقتان.. بل طبقات
أنتج الدمج الناصري للحركة العمالية في الدولة أواخر الخمسينيات أزمة امتدت مع الزمن لتضعف حركة الطبقة العاملة حتى الآن، فالأمر لا يمكن إحالته فقط إلى القمع الأمني، لأن الدولة الناصرية حوّلت الأول من مايو من عيد للعمال إلى عيد اجتماعي للدولة المصرية تحت شعار "المنحة يا ريس". أما سياسات الانفتاح الاقتصادي فخلقت طبقة عاملة أخرى على مستوى الوعي والحقوق، مما فتح الباب أمام تدمير إمكانات الطبقة العاملة كليًا، حركيًا وتنظيميًا.
فهناك طبقة عاملة داخل مؤسسات ومصانع القطاع العام، هذه الطبقة كانت مشمولةً بمظلة وشرعية الدولة اليوليوية وتعاقدها الاجتماعي مع العمال الذي أبرمته في عهد عبد الناصر، وهو تعاقد فيه حزمة من الالتزامات المتبادلة ومعها حقوق ومكاسب تحققت مقابل تخلي الحركة العمالية عن استقلاليتها الحركية والسياسية. خلق ذلك وعيًا "ناصريًا" عند هذا القطاع من الطبقة العاملة، جعلهم أقرب إلى الموظفين منهم إلى العمال. أو بلغة أخرى؛ أصبحوا بيروقراطية عمالية داخل جيش العاملين الأوسع في الاقتصاد الوطني.
ولدت طبقة عاملة جديدة في وضع بدائي تُوقع على استمارات فصلها في بداية العمل
لأنه على جانب آخر هناك، نمت وتشكلت طبقة عاملة أخرى في القطاع الخاص بعد سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة، لكنه نمو بلا أي تراثٍ أو تقاليدَ نقابيةٍ، فنشأت محرومةً من حقوقها البديهية، وأولها حق التنظيم، وذلك في ضوء عدم ضمِّها لمظلة الاتحاد الرسمي للعمال، وعدم السماح أمنيًا بتأسيس نقابات عمالية مستقلة.
وبذلك، ولدت طبقة عاملة جديدة كما لو كانت في القرن التاسع عشر، في وضع بدائي لدرجة أنها توقع على استمارات فصلها التعسفي في بداية التحاقها بالعمل. هذه هي الطبقة التي تنامت فعليًا مع فتح السوق للاستثمار المحلي والأجنبي، وهي التي تشكل فعليًا الجسم الرئيسي للعمال في مصر.
حافظت الدولة لفترة طويلة على اتحاد العمال البيروقراطي التابع لها كمظلة وحائط صد ضد الحركة العمالية المستقلة، وظل هذا الاتحاد بدوره وفيًا لدوره العميل لها في مواجهة العمال أنفسهم، تحت عنوان أنا أفضل من اللاشيء. فكف عن الدفاع عن حقوق عمال القطاع العام وبالطبع لم يسعَ إلى تنظيم عمال القطاع الخاص.
أما في المرحلة الحالية، وبعد أن جرَّد الطغيان الحالي الطبقات الوسطى المهنية نفسها من أهليتها ومكانتها الاجتماعية، لم نعد نسمع عن اتحاد عام نقابات العمال ولا صيحة المنحة يا ريس ولا كل هذا التراث اليوليوي الذي طالما نظرنا إليه بعين التقدير أو السخرية. فنحن الآن في زمن جديد.
كلنا عمال.. ولكن ما العمل؟
المرحلة الحالية من تاريخنا تحمل العديد من المفارقات. فمن زاوية؛ تسببت السياسات اليمينية للسلطة الحالية في إفقار قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة، لدرجة بدأ يدرك معها البعض أنهم اقتربوا من بوابات الدخول للطبقة العاملة، وهذه هي الحقيقة التي ربما ينكرها الكثيرون بأشكال مختلفة من المقاومة.
فعنصر أساسي من عناصر الوعي البرجوازي في مصر هو تحقير المسميات العمالية، باعتبارها تعبيرًا عن وضع اجتماعي أدنى يتنافى مع رحلة الترقي الاجتماعي التي تبدأ بتعليم الأبناء تعليمًا جامعيًا جيدًا. المسألة ليست مسألة راتب أو دخل مرتفع، بقدر ما تتعلق بموقعك في مصفوفة الاحترام العام الذي لم تحظَ به سوى فئات معينة من الطبقات الوسطى.
أما الاَن، وبعد أن زال الاحترام عن الأغلبية لأسباب سبق وشرحتها في سلسلة الذين صعدوا إلى الطبقة والذين هبطوا منها، فإدراك "الموقع العمالي" لكثير من أبناء الفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة أصبح مسألة وقت.
لكن هناك مفارقة أخرى يتناساها البعض، وهي أن الطبقة العاملة المصرية ليست تاريخيًا هي الطبقة الأكثر كدحًا وفقرًا في مصر، بل العمال الزراعيون، لا سيما عمال التراحيل. وكانت ولا تزال عمالة الخدمات الدائمة والموسمية واليومية يعيشون الوضع الأكثر خطورة وحساسية في مصفوفة العمل الكادح، فضلًا عن أن الطبقة العاملة المصرية هي طبقة مدينية بالتعريف، بكل ما تحوزه المدينة من ميزات تاريخية مقارنة بالريف.
لذا وبمعنى من المعاني، اكتسب الوعي العمالي المصري كثيرًا من سمات وعي الطبقات الوسطى، خصوصًا بعد أن قلدته الناصرية وضعًا مميزًا في عهدها على مستوى المكانة والاحترام.
لكن المفارقة الأهم في رأيي هي إنكار الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة لمحورية الطبقة العاملة في خلق الثقافة التنظيمية النقابية في المجتمع كله، بينما الحقيقة أن العمال هم من بدأوا أشكال التنظيم الاجتماعي النقابي في مصر، لا الأفندية كما يتصور البعض.
أغلب صيغ التنظيمات المهنية النقابية هي نماذج محاكاة للنقابات العمالية في أهدافها الأخلاقية والحركية العامة، من حيث إن مهمتها الأساسية هي الدفاع عن المصالح الاجتماعية لأبناء المهنة أكثر من كونها كيانات تضع قواعد وأخلاقيات تنظم ممارسة هذه المهنة، بالرغم من أنها عمليًا تجمع بين المهمتين.
نحن إذن أمام مشهد سريالي بدرجةٍ ما؛ طبقات وسطى تكدح على مستوى الدخل والمكانة ولكنها تبذل كل الجهد لإنكار مواقعها العمالية الجديدة، وطبقة عاملة تحمل كثيرًا من سمات الطبقات الوسطى بحكم أن هناك من هم أدنى منها بمعايير البؤس الاجتماعي المصري، أي أن الأغلبية من العمال، ولكن بدون وعي أو فخر أو تعامل مع الأمر الواقع.
في حين أنه على المستوى السياسي، ومن أجل الصالح الوطني العام ومستقبل هذا البلد، فإن وجود التنظيم العمالي الجامع هو الشرط الحقيقي والمادي لمدنية الدولة، سواء كانت مدنيةً في مقابل الدولة العسكرية البيروقراطية أو في مقابل الدولة الدينية والطائفية. ولو أصبحت في يوم من الأيام الاتحادات النقابية للعاملين هي التشكيل الناظم الرئيسي في المجتمع، فهذا سيغير الخريطة السياسية وعلاقات القوة بشكل حاسم ونحو صيغة أكثر ديمقراطية بالتأكيد، والأهم أنه سيزيل كثيرًا من أشكال الرعب والابتزاز السياسي المرتبطة بثنائية القوى الدينية والعسكرية التي نعرفها جيدًا.
تعي البرجوازية البيروقراطية ذلك جيدًا، وكذلك برجوازية الإمعات، ولكن وعيهم هذا آتٍ من الموقع المعادي والمضاد، الذي سيحاول بكل الطرق وأد أي إمكانية لهذا الطرح، وهذا مفهوم بالطبع، لكن ماذا عن تلك الطبقة الوسطى التي تكدح كل يوم وبلا توقف، حتى أضحت في هاويةٍ بلا قرار؟