تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
بشار الأسد، الرئيس السوري السابق

رعب اليوم الأول بعد "الأبد"

منشور الثلاثاء 7 يناير 2025

عشية فرار الأسد، أردت الاطمئنان على أصدقائي السوريين. كتبتُ لصديق في اللاذقية فوجدته سعيدًا كما لم يكن يومًا. قلت: لكنني قلق، قال: سأقلق غدًا، اليوم أحتفل بأنني عشت إلى أن رأيت سوريا بدون الأسد.

وتكررت عبارات مشابهة في ردود من دمشق وباريس وألمانيا. أحدهم قال: المهم أننا غادرنا المطلق وسنجرب العيش داخل الزمن أيًا كان شكله. المطلق الذي قصده هو الشعار الثقيل السمج المصكوك في عهد الأسد الأب "إلى الأبد".

لم يصك بشار هذا الشعار بنفسه ولنفسه، لكنه وجده في طريقه، مثلما وجد نفسه في وضع سارية علم طويلة لنظام من أكثر الديكتاتوريات إجرامًا. استمرار الملمح الدموي للنظام وثقله على الأرواح جعل من الصعب على أي سوري أن يتأمل النقلة الهزلية للشعار مع تولي بشار الحكم رغم أنفه. في بلد تأصل فيه الحزن إلى النخاع كان من الصعب تأمل التناقض بين قوة الشعار ووثوقيته والملامح الباهتة لرجل طويل أبله (أَخْوَت على قولتهم).

في لحظة الانهيار تجلى ثقل شعار "الأسد إلى الأبد" الذي يخص حافظ في صلابة تماثيله، بينما بدا "أبد بشار" فوتوغرافيًّا هشًا سريع الاحتراق.

لكن المفارقة المحزنة تكمن في أن جرائم الهزل كانت أفظع وأوسع نطاقًا من جرائم الجد، بمعنى أوضح كانت جرائم الفترة التي حكمها الولد أكبر من جرائم حكم الوالد، خصوصًا الفترة من 2011 إلى يوم السقوط، والتي فاقت في أذاها للمدنيين كل شناعات التاريخ الحديث من هتلر إلى اليوم، حيث توزع الشعب بين شتات في المنافي ورهائن في السجون وخارجها في المنطقة المحدودة التي يرتفع فوقها الشعار. لولا الوجود الصهيوني في فلسطين لاحتل النظام السوري المرتبة الأولى بين الأنظمة الأبشع في عالم اليوم.

لكن النار أكلت نفسها، كعادة كل نار، ولم يتطلب إسقاط النظام سلاحًا بل مكنسة لكنسه فانطلق الكناسون من الشمال إلى الجنوب بسرعة الموتوسيكل.

عرش الإجرام

يظهر بشار الأسد بالبوكسر في عدد من الصور التي وجدها السوريون في القصر الرئاسي بعد فراره، ديسمبر 2024

لا يمكن لأحد أن يستكثر غريزة الثأر لمدة يوم على من عاش كل أو معظم حياته في ظل هذا الجنون. العيب الوحيد أن بشار حظي بكل الشماتة وحده، طبقًا للخطأ الشائع باختصار الاستبداد في فرد، رغم أن الجميع يعلم أنه مجرد سارية علم، وشخص لابس بدلة رئيس، استدعوه من دراسة الطب ليرث أباه بديلًا لأخيه المقتول.

والشائع أنه لم يكن يريد هذه الحياة. تولى في عام 2000 وأراد أن يكون مختلفًا. أطلق في أول خطاباته ما عُرف بربيع دمشق؛ فنال التوبيخ من النظام وتقوض الربيع بعد عدة أشهر، والتزم حجمه في المنظومة. هذه الوقائع لا تمنحه صك براءة، لكن الجريمة يتحملها كل حملة عرش الأسد من ضباط وأعضاء مجلس شعب ووزراء وقضاة وأطباء المعتقلات والطب الشرعي ممن حملوا عرش الإجرام على مر السنين.

الحل الذي يضمن المستقبل هو القصاص من كل هؤلاء، لكن حدود التغيير لم تسمح بالقصاص حتى من بشار نفسه، لقد صار لاجئًا كملايين من ضحايا النظام لكنه لن يعرف سكنى الخيام، بل القصور مثلما كان في السلطة، لم يخسر سوى منصب لم يكن جديرًا به من البداية للنهاية.

صورته بالبوكسر، ربما تكون آخر ما سيناله من العقاب. ويبدو أنها في عرف الجمهور كافية كقصاص، وأخذ غير السوريين ينشرون الصورة على نطاق واسع، بشهية كبيرة لرؤية بوكسرات جديدة.

حكم الغرائز المنفلتة

وسط جدل التوريث، أعلن مبارك أثناء زيارة له لأمريكا عام 2000 أن "مصر ليست سوريا" في معرض الإشارة إلى أنه لا ينوي توريث ابنه، ومن ذلك التاريخ صارت سوريا نموذجًا لما يجب ألا تكون عليه مصر "يجب أن نرضى ونسعد بأكل الوحل حتى لا نكون مثل سوريا والعراق".

للمفارقة، سوريا بالذات كانت جناحًا ثانيًا لمصر وخط دفاعها الأول من الفراعنة حتى دولة الوحدة قصيرة العمر، وقتها صار الجيش واحدًا بترقيم متصل لفرقه. سوريا بالذات، هي المكان الذي يأتي منه الخطر دائمًا، أكثر من الجارتين ليبيا والسودان، وأي عطسة هناك يتردد صداها مرضًا هنا.

وكما لدى السلطة أوهامها الخطرة، فالجمهور لديه أوهامه كذلك، وأخطرها الاعتقاد بأن الديكتاتوريات ليست سوى "حكم الفرد". هذا هو أكثر الأوهام السياسية خطورة، ببساطة لأن إعطاء الفرد كل هذه الأهمية يُفلت بقية أعضاء المنظومة من العقاب، ويجعل الناس أقرب إلى تسليم أنفسهم لأول فرد جديد. لكن الحقيقة تقول باستحالة أن يستطيع فرد بنفسه السيطرة على دولة إلا أن يكون إلهًا. ومن المخجل أن تتوه عنا حقيقة انتبه لها الكواكبي منذ قرن وربع، عندما تناول بنية السلطة وشبكة مصالحها التي ترفع آلهة العجوة، وعندما تهتف لها "إلى الأبد" فهي في الحقيقة تهتف لنفسها.

تبدو الديمقراطية في مظهرها وكأنها حكم العقل لأنها تضع غرائز شخص موتور مثل ترامب تحت الملاحظة وتجعل تأثيره محدودًا على بلاده

إن أردنا وصفًا للاستبداد أقرب للدقة، فهو ببساطه "حكم الغرائز المنفلتة" حيث تتغلب فئة من الناس تختطف القرار وتحكم بما يلبي شراهتها.

الديمقراطية هي النظام البشري الوحيد الآمن حتى الآن، لا لأنه نظام عقلاني، بل لأنه يضع غرائز ورغبات البشر المختلفين في مواجهة بعضها البعض، فيحدث التوازن بين إرادات مؤسسات الدولة وبعضها، وبين إرادة المحكومين المتنوعين التي تتجلى أمام صندوق الاقتراع وفي المظاهرات؛ فتبدو الديمقراطية في مظهرها وكأنها حكم العقل، لأنها تضع غرائز شخص موتور مثل ترامب تحت الملاحظة وتجعل تأثيره محدودًا على بلاده.

في غياب هذا التوازن للإرادات، تتمدد غريزة القوة وتجر خلفها شهوة المال والدم والتوحش منفلت العقال. وفي لحظة تتحول سلطة هذه النخبة إلى محض جسد بلا كوابح حتى النهاية المحتومة، ببساطة لأن السعار لا يجري في دم فرد واحد يمكن عزله أو إقناعه بتخفيف نهمه، لكنه في دماء مجاميع تدير آلة الجشع الجهنمية. لهذا، في كل تجارب التاريخ، لم تدرك أنظمة الغريزة الخطر، وإن أدركته لا تستطيع تغيير سلوكها لمواجهته، فهي محض جسد يتمدد بالرغبة ويتداعى بالتخمة. هي حرفيًّا نار تأكل نفسها وما حولها.

آلة اللامعقول

مصير العراق كان أول وأفظع مصائر دول الانقلابات العربية. لحظة التأسيس كانت دمويةً بإعدام الأسرة الملكية بأطفالها، واستقرت لعنة الدم، ولم تعرف النهاية إلا بتآكل النظام من داخله قبل الغزو الخارجي.

استفتح السقوط الهزلي والحزين لصدام سلسلة السقوط في بداية الألفية. لم تُسقِط استبداد العراق ثورة، بل غزو خارجي. ولا فرق كبير، فهو في النهاية حكم الغرائز وخياراتها السيئة التي انتهت بالإنهاك، وأطمعت الأمريكيين في الغزو فتبدد النظام وانتشر القمل في رأس الزعيم المهاب الركن بالحفرة، وأصبح العراق حفرة كبيرة للمطامع والمصالح.

صورة للجندي العراقي الأمريكي «سمير» أثناء عملية الفجر الأحمر وتُظهر الصورة إلقاء القبض على الرئيس صدام حسين في تكريت، ديسمبر 2003

ولم يُشكل سقوط صدام ودمار العراق أي عبرة لأنظمة كان لديها بقية من رصيد في بلادها، وكان بوسعها إجراء تحول يتماشى مع قانون الزمن، لكن قوة اندفاع آلة اللامعقول لا يمكن إيقافها، لهذا كان الانهيار طريقًا محتومًا.

وقوع صدام بالغزو الأمريكي، بدا لنظرائه حالة خاصة. "لست صدام، أنا رجل مطيع" لكن الأنظمة المطيعة كانت لديها حماقتها الأخرى الموحدة: خيانة النسق!

أحد ثوابت الدكتاتوريات الكلاسيكية، والأساس الذي قامت عليه السلطة في جمهوريات الضباط هو كبت الحريات في مقابل الإطعام والتعليم والتوظيف. جميعها تخلت عن هذه الوظائف في وقت واحد. دولة الرعاية صارت دكانًا، وصارت الجماهير زبائن، فلماذا ينبغي أن يهتف الزبون بحياة صاحب الدكان؟!

الربيع العربي

لأن استغناء الفم عن الطعام والكلام في الوقت نفسه، كان الربيع في 2011. وكان تنبيهًا قويًا وفرصة لنجاة الجميع. ثورات تغني وتكنس الشوارع وتطلي الجدران. مطالب العيش والحرية مشروعة. ولم يكن في الربيع من عيب سوى أن عدد المؤمنين به أقل من أن يحقق النصر على ترسانات النظم وأموال الإقليم.

لكن اللامعقول آثر المضي نحو المصير الأسود، فتم الالتفاف على مطالب الشعوب بهذه الدرجة أو تلك من العنف، ثم أطلق الذين دفنوها معًا أبواقهم يصفون ما حدث بالمؤامرة، وكانوا أول من صدق كذبة اختلقوها بأنفسهم، ويعرفون أنهم بأنفسهم أطلقوا الإرهاب وأنشأوا الميليشيات التي ستأكلهم وتأكل البلاد لاحقًا.

وللأسف لم يُدرس ما حدث بشكل جاد اليوم. المنتصرون تحكمهم الغرائز وليسوا بحاجة إلى العقل أو الفهم. في كل بلد وفي كل لحظة من 14 سنة مرت، وكانت هناك فرصة للتراجع والاستجابة لاستحقاقات هذه اللحظة من التاريخ، بدلًا من الركون إلى الأوهام، وأكبرها أن الربيع قد انهزم، لكنه بالحقيقة تعطَّل، ولم تزل المطالب معلقة بتكلفة كبيرة على الشعوب. كل دول الربيع إما اشتعلت فيها حرب حقيقية بسبب العناد أو تعاني من مظهر الحرب، المتمثل في كثافة الوجود الأمني بالشوارع كل هذه السنين، وفوق ذلك تعاني من حدة السخرية.

كل ما يجده أصحاب الدكان مجيدًا ومديدًا ومقنعًا يحترق في تعليقات الزبائن على حوائطهم الافتراضية في اليوم نفسه. ولا تستطيع جحافل الأمنعلام من نجوم تليفزيون ولجان أن ترد سخرية الساخرين، حيث لا توجد قصة متماسكة تقنع الزبون، بل لا توجد جملة تنسجم مع أختها أو مع نفسها، لأن الواقع غير منسجم والأولويات تم ترتيبها بالرغبات لا بالعقل، لأن جسد الرغائب الشره أعمى وقد بلغت شراهته حد مصمصة العظام، حرفيًّا.

انتهت 2024 بتبخر عائلة الأسد وتركت سوريا مكشوفة، ورأينا ما حدث في اليوم التالي للأبد.

والآن، في هذه اللحظة الحزينة من بداية 2025، صار حتى الأطفال يعرفون أن الصهيونية والرأسمالية قررتا الفوضى نصيبًا لهذه المنطقة. وصار الأطفال يعرفون أن الحليف الوحيد المضمون هو الشعب، وصاروا يعرفون أيضًا أن سرطان الرغبة يمنع المريض من تناول العلاج، وأن قصاص البوكسر ليس قصاصًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.