في دمشق ينتقمون من الموتى، في الشام انتقامٌ أهليٌّ يستهدف إعلان الانتصار على عظام المقابر. في بغداد انتقم الغازي بإلقاء الدروس على الخليفة المهزوم، ما فائدة النصيحة بعد الفشل في الامتحان؟ أما مصر فتجبر خاطر مَن لا وطن لهم غيرها ولا قبر، القاهرة أمّ اليتامى.
لو تدبّر بشار الأسد تاريخ أسلافه لأخذ العبرة، وربما لا يعتبر أمثاله "ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه". خمسون عامًا من حَلْب البلاد واستعراض المُتع المنهوبة والبرطعة، لا تصمد أمام لحظة يطارده فيها الضحايا، ويضيق الوطن؛ فلا يتسع لمقبرة تصون عظام عائلة طُويت طيّ السجل، دُمرت التماثيل، وانتهكت الصور، وأشعلوا النار في قبر حافظ الأسد.
روايات المهزومين
فذلكة التاريخ أن يدور حكم العباسيين بين قوسي سيفين، بأحدهما بدأ وبالآخر انتهى. افتتحوا عهدهم بالانتقام من رفات الأمويين. السفاح أول "الخلفاء"، أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب تولى في سن السادسة والعشرين، وفي خطبته الأولى حمد الله الذي ردَّ "إلينا حقّنا وإرثنا"، وختمها بقوله "فاستعدوا، فأنا السفاح الهائج، والثائر المبير".
أما عبد الله بن علي، عمُّ السفّاح، فأباح القتل في دمشق، وجعل جامعها سبعين يومًا إسطبلًا لدوابه، "ثم نبش قبور بني أمية، فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطًا أسودَ مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، فوجد جمجمة، وكان يوجدُ في القبر العضوُ بعد العضو، غيرَ هشام بن عبد الملك، فإنه وجده صحيحًا لم يَبلَ منه غيرُ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت، وصلبه أيامًا، ثم أحرقه بالنار، ودقّ رماده، ثم ذرَّاه في الريح".
الواقعة وثّقها ابن كثير في البداية والنهاية، مضيفًا أن عمَّ السفاح تتبع "بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين نفسًا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع، ومدَّ عليهم سماطًا، فأكل وهم يختلجون تحته، وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك، وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة، فما زالوا يَزْنون بها، ثم قتلوها".
لعل ذكْر الوجه الكابوسي للخلافة يكبح أشواق الحالمين بإعادتها، ويُهوِّن الأحكام الأخلاقية على حارقي قبر الأسد. للمظلومين أن يجهروا بالسوء من القول، وقد ذهب الغاضبون إلى أبعد من سوء القول، فانتهكوا القبر، وأسكنوا التماثيل في صناديق القمامة.
في خطبة العرش، فاجأتني إشارة العمِّ إلى ابن أخيه، السفاح "أمير المؤمنين"؛ "واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم، عليه السلام". لكنهم سلموا بغداد إلى هولاكو "وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها"، كما قال الذهبي في كتاب العِبَر في خبر من غَبَر. روى السيوطي في تاريخ الخلفاء أن القتل استمر في بغداد نحو أربعين يومًا "فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف". اقترنت نهاية المستعصم، الذي حكم 17 سنةً، بالمهانة. استأذن في الذهاب إلى الحمام، فأمر هولاكو بأن يصحبه خمسة من المغول، فأنشد الخليفة: وأصبحنا لنا دار كجنات وفردوسِ.. وأمسينا بلا دار كأن لم تغنَ بالأمسِ.
ذكر أبو الفداء إسماعيل في المختصر في أخبار البشر أنهم قتلوا الخليفة "ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله، فقيل خُنق وقيل وضعوه في عِدْل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في دجلة والله أعلم بحقيقة ذلك". رواية أيّدها ابن كثير "فقتلوه رفسًا، وهو في جوالق لئلَّا يقع على الأرض شيء من دمه... وقيل: بل خُنق، ويقال: بل أُغرق، فالله أعلم".
تشابهت روايات المهزومين، يبدو أن لها أصلًا واحدًا كتبه مَن لم يشهد نهاية المستعصم. أما دراما الموقف فوثقتها سجلات المنتصر. وأتيح للوزير المؤرخ المغولي رشيد الدين الهمذاني الاطلاع على سجلات سقوط بغداد، وفي عام 1967 نشر أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس الدكتور فؤاد عبد المعطي الصياد كتابه مؤرخ المغول الكبير رشيد الدين فضل الله الهمذاني، واصفًا إياه بأنه لم ينحرف "عن المنهج الذي اختطه لنفسه وهو التزام الحياد النزيه".
كيف يمكن أكل الذهب؟
لم يطلق جنود الأسد رصاصة دفاعًا عن دمشق. في بغداد سلّم المستعصم "نفسه وعاصمته للمغول بلا قيد ولا شرط، بعد أن وعده هولاكو بالأمان". وقصد هولاكو قصر بغداد، واحتفل مع رجاله، واستدعى الخليفة المعتقل، وجرى بينهما موقف كاشف، يؤكد أن السقوط ليس مفاجئًا.
قدَّم الخليفة إلى هولاكو آلافًا من الثياب والدنانير والنفائس والمرصعات والجواهر، فلم يلتفت إليها، وزَّعها على أتباعه، وقال للخليفة إن هذه الأموال الظاهرة غنيمة للجنود، "والآن نريد أن تكشف لنا عن الأموال والدفائن".
دلّهم الخليفة على حوض مملوء بالذهب وسط القصر، فحفروا ووجدوه. وأمر هولاكو بإحصاء حريم الخليفة وحاشيته، فوجدوا 700 من النساء والسرايا وأكثر من ألف من الخدم. فتضرّع إليه الخليفة؛ "امنحني تلك النسوة اللائي لم يكن يطلع عليهن ضوء الشمس ولا نور القمر"، فسمح له باختيار مائة امرأة. وبعد أعمال القتل والاستيلاء على مدخرات الخلفاء العباسيين طوال أكثر من خمسة قرون، تقرر مصير الخليفة.
أمر هولاكو بحرمان الخليفة من الطعام حتى جاع، فقدم إليه طبقًا مملوءًا بالذهب، وأمره أن يأكل، فقال "كيف يمكن أكل الذهب؟" ردّ عليه هولاكو "إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلمَ احتفظت به ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولمَ لمْ تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟"، أجاب الخليفة "هكذا كان تقدير الله"، فقال هولاكو "وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله".
في القصر أموال ونفائس وثروات تكفي لتسليح جيش يمنع التتار وغير التتار، لكنها مدفونة. الغافل ورثها وأنماها وادَّخرها؛ ليفتدي بها نفسه من الغازي اللائم. شيطان يعظ شيطانًا. والدول، بالذات العواصم، تسقط أو تقاوم استنادًا إلى انتماء جيشها إلى الوطن، أو الولاء لرأس النظام. جيش الحاكم لن يدافع عنه، وجيش الوطن يموت في سبيله، ولا يُسقِط الراية ولو مات الحاكم.
لو سقط حكم الملالي، فهل يبحث الإيرانيون عن قبر رضا شاه؟ الرجل صار جنرالًا بالمصادفة، وعزل الملك القاجاري، وغيَّر اسم البلاد، وارتهن بأمر رعاةٍ اتهموه بالتعاطف مع النازي، فخلعوه عام 1941، وأجبروه على التنازل لابنه. من العرش إلى بهدلة المنافي الآسيوية والإفريقية، إلى الموت في جنوب إفريقيا عام 1944. تعذر نقل جثمانه إلى إيران، وبعد شهور حُمل إلى القاهرة، ودفن في مسجد الرفاعي، ثم نقلت رفاته إلى إيران عام 1950. وفي عام 1979 دمر أنصار الخميني قبر رضا شاه، ومحوا أي أثر لعائلة بهلوي. أما الشاه الأخير محمد رضا بهلوي فضاقت به الأرض حيًّا، واستضافه أنور السادات. ولا يزال مدفونًا في مسجد الرفاعي.
حكى أنيس منصور، في كتابه معنى الكلام أنه قابل الشاه، وسجل رسالة صوتية كلّفه بنقلها إلى السادات؛ "إن أحدًا لم يخدم الأمريكان في هذه المنطقة كما فعلت أنا.. ولكن الأمريكان لا عندهم مبدأ، ولا خلق.. فعندما كنت أرقص مع زوجة الرئيس كارتر وهو يرقص مع زوجتي وكان يهمس في أذن زوجتي ويقول لها إيران جزيرة الأمان، كان مدير المخابرات المركزية في انتظار الخميني في طهران.. أخي أنور لا تثق بهم.. فإن قبلوك اليوم قتلوك غدًا".
قلت في البداية إن القاهرة أم اليتامى، لأن أم الدنيا مصر وطنٌ للاجئين، حتى الشاه الكريه، ولو كان في عراق صدام أو ليبيا القذافي أو سوريا الأسد، ما جرؤ على توجيه الرسالة إلى أيٍّ من طغاتها. البلاد الضائقة برفات مستبديها لا تقارن بمصر التي منحت المماليك يقينًا بأنها "دار الإسلام"، فلم يوصوا بأن يدفنوا في الحجاز، وإذا هُزِم أحدهم أو نُفِي؛ الْتمس من المنتصر السماح له بأن يُدفَن في مصر.
في عام 2018 أُعلن عن العثور على جثمان يُرجح أنه لرضا شاه. كم ننتظر حتى تؤدي المصادفات إلى اكتشاف رفات القذافي والأسد؟