صورة متداولة على إكس
تهجير حلب 2016 بعد سيطرة النظام السوري عليها

على أعتاب الوطن.. حكايات التردد والأمل في قلوب السوريين بمصر

منشور الاثنين 23 ديسمبر 2024 - آخر تحديث الاثنين 23 ديسمبر 2024

لم يكن حازم الشيخ، مهتمًا بأمور السياسة قبل اندلاع الثورة السورية، في مارس 2011، لكنه كان كمعظم شباب بلاده يعاني من البطالة وتفشي ظلم رجال الأفرع الأمنية، كان قد أتم عامه الثاني والعشرين، حين شاهد للمرة الأولى في حياته، التظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي في سوريا وفك الحصار الأمني على مدينة درعا، فتعاطف معها وانضم إليها، لكن قوات الأمن راحت تقتحم المنازل وتختطف المواطنين وتحتجزهم في مقرات الأفرع الأمنية وتُعذّبهم، حتى لفظ شاب من مدينة الكسوة في ريف دمشق، التي ينتمي إليها حازم، أنفاسه بسبب التعذيب، وهو ما جعل المتظاهرين يطالبون بإسقاط النظام، فقابل الأمن هتافاتهم بإطلاق الرصاص الحي.

لم يشعر حازم بنفسه إلا وقد تلقى رصاصة وغاب عن الوعي، لينقل إلى أحد المستشفيات الحكومية لإنقاذه، وفور تماثله للشفاء حاول مغادرة المستشفى، إلا أن رجال الفرع الأمني اعتقلوه وعذبوه لانتزاع اعترافات منه حول مصاب آخر كان معه بالمستشفى ونجح في الهرب، أودع حازم سجن صيدنايا، ليقضي ثماني سنوات، لاقى خلالها ألوانًا من العذاب، وحين أخلي سبيله عام 2019، شعر بغربة شديدة.

"كأني كنت من أهل الكهف، لما خرجت كان كل شي متغير، الشوارع اتغيرت والصغار كبروا، الناس ما بتعرفني وأنا ما عارفهم، مر وقت كتير لحتى تأقلمت على الوضع، وقررت أبعد عن السياسة والمشاكل، فتحت دكان هدايا وحلويات شرقية، بس بعد سنة من خروجي من السجن، إجت دوريات على المحل وكلبشوني وأخذوني لمقر الفرع الأمني 60 يومًا، لمجرد أن زبون حكى معي وطلع إنه مطلوب أمني!"، يحكي حازم لـ المنصة.

بمجرد خروجه من الاحتجاز فر حازم هاربًا من الأراضي السورية إلى مصر، خوفًا على أبويه وأشقائه من التنكيل الأمني.

وبعد ثلاث سنوات من استقراره في مصر، كانت فرحة الشاب الثلاثيني لا توصف حين تلقى أخبار سقوط نظام الأسد، وتحرير معتقلي سجن صيدنايا وغيره من السجون وسيطرة المعارضة السورية المسلحة على العاصمة دمشق، وبات حازم ينتظر، على شوق، فتح المطارات السورية واستئناف سفارة بلاده تقديم خدمة اصدار جوازات السفر المتوقفة، لأسباب فنية ولحين إعادة الربط مع منظومة الجوازات المركزية في دمشق، وفق ما أعلنت السفارة، الأربعاء 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بعد توقف خدماتها مدة أربعة أيام عقب إسقاط نظام الأسد، لينهي إجراءات الرجوع للوطن.

عقبة الإجراءات

سوريات يتسلمن المعونة الشتوية في مصر عام 2019

حصل حازم على بطاقة اللجوء الصفراء في مصر وعمل في شركة خاصة، ومع ذلك لم يخمد شوقه إلى بلده وأسرته، وعقب سقوط نظام الأسد، توجه من فوره إلى مقر مفوضية اللاجئين بالزمالك، لكنه وجد أعدادًا كبيرة من السوريين من مختلف الأعمار أمام المفوضية، كثيرون منهم يريدون إغلاق ملفات لجوءهم والعودة لسوريا، وآخرون يريدون تجديد ملفاتهم لحين عودة الأمن والأمان لسوريا، يقول "همي الوحيد هلّا أرجع على سوريا". لكن هناك عقبات تمنع ذلك منها استمرار إغلاق المطارات السورية، وتوقف خدمة تجديد جوازات السفر بسفارة بلاده عقب سقوط رأس السلطة، إضافة إلى الإجراءات البيروقراطية المتعلقة بالسفر وإغلاق ملفه لدى مفوضية اللاجئين.

يضيف "بعرف إنه إجراءات إلغاء هوية لاجئ بتاخد وقت، وبدي أخلص الإجراءات في المطار، توفيرًا للوقت والجهد، ما عدنا لاجئين خلاص بعد تحرير سوريا".

للإقامة في مصر بشكل قانوني، يجب أن يكون السوري طالب لجوء أو لاجئ مسجل لدى مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أو طالبًا، أو مستثمرًا.

وقبل إلزام الحكومة المصرية للاجئين بتقنيين أوضاعهم، كان 10% من السوريين في مصر مسجلين لدى المفوضية، ولم يلتزم البقية بالتسجيل بسبب الإجراءات وقوائم الانتظار، مما جعلهم في مأزق بعد صدور القرار. 

يحصل طالبو اللجوء على البطاقة الصفراء عند التسجيل لدى المفوضية، على أن يتم تجديدها كل 18 شهرًا، وتعد البطاقة شرطًا للحصول على تصريح الإقامة من السلطات المصرية، الذي تبلغ تكلفته 500 جنيه مصري أي 10 دولارات فقط.

وكانت مصر قد أعلنت دعمها العودة الآمنة للاجئين السوريين إلى بلدهم، وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية المصرية، الأحد 22 ديسمبر الجاري. بعد أن كانت قد فرضت، اشتراطات جديدة على دخول السوريين القادمين من دول أخرى إلى أراضيها، تتضمن الحصول على موافقة أمنية مسبقة، إلى جانب تأشيرة الدخول، لاغية بذلك الاستثناءات السابقة والتي كانت تسمح للسوريين القادمين من دول الخليج وأوروبا وأمريكا بدخول مصر بتأشيرة اضطرارية في المطار.

ووفقًا لبيان الإدارة السورية الجديدة فإن قائد "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع، الذي يقود السلطة الجديدة في سوريا، أكد في لقائه بالمبعوث الأممي لسوريا، جير بيدرسون، على أهمية توفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين، وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لتحقيق ذلك.

ألقى هروب الأسد طوق النجاة للأربعينيُّ وائل أبو لؤي، ابن مدينة حمص المقيم في مصر مع أسرته المكونة من زوجته وابنتيه منذ عام 2011، ويعمل في مطعم معجنات لبناني بمدينة الرحاب شرق القاهرة، إذ بات يواجه صعوبة كبيرة في تدبير قيمة الغرامات المالية المفروضة على أسرته، بسبب عدم حصوله على إقامة سارية، وهو ما يحول دون قدرته على السفر.

ما دفعه للإنضمام إلى حازم في مناشدته السلطات المصرية تسهيل إجراءات خروج السوريين الراغبين في العودة الطوعية.

في أغسطس/آب 2023، ألزم رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي الأجانب بدفع رسوم الإقامة بالدولار الأمريكي، إضافة إلى دفع غرامة ألف دولار لكل شخص لم يسبق له الحصول على الإقامة أو انتهت إقامته ولم يجددها في المواعيد المحددة قانونًا.

"مش بس أنا وعيلتي، كتير سوريين انتهت إقامتهم أو صلاحية جواز سفرهم وما معهم مصاري ومحتاجين تسهيل الإجراءات ليرجعوا على سوريا" يقول وائل لـ المنصة.

غالبية اللاجئين السوريين في مصر لديهم مشكلات تتعلق بعدم امتلاك إقامة أو انتهاء مدتها، حسب أحمد القصبي، المحامي المتخصص في قضايا الهجرة والجنايات، ما يشكل عقبة أمام إجراءات سفرهم وخروجهم من المعابر البرية والبحرية والمطارات.

يشرح القصبي لـ المنصة الأوضاع التي وصلت بالسوريين إلى ذلك "منهم من حصل على منح دراسية وانتهت فترة دراستهم، أو حصلوا على إقامة مستثمر ولم ينفذوا المشروعات التي تقدموا بها على أرض الواقع، فإقامتهم لم تجدد".

ويضيف "عدد منهم دخل مصر عن طريق الهجرة غير الشرعية ولم يقننوا أوضاعهم، وهو ما يجعلهم عرضة للقبض عليهم وتسليمهم لمفوضية اللاجئين التابعين لها أو سفارة بلدهم، لترحيلهم خارج البلاد".

وارتفعت أعداد اللاجئين السوريين المسجلين لدى مفوضية اللاجئين في مصر بشكل كبير من 12,800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153,000 شخص في نهاية عام 2023، ممثلين خلفيات اجتماعية واقتصادية ودينية مختلفة، بينما تشير المنظمة الدولية للهجرة إلى أن تعدادهم يصل إلى 1.5 مليون.

الاستقرار دون العودة

تعتبر الشاعرة سمر معتوق عودتها لبلادها أكيدة، وتؤجلها إلى ما بعد انتهاء العام الدراسي. تقول لـ المنصة "العودة إلى سوريا حتميّة"، بعد إقامة في مصر 11 عامًا.

تنوي سمر العودة إلى محافظتها ريف دمشق، بعد أن ينتهي أبناء إخوتها من دراستهم هذا العام، "نحتاج وقتًا لتنظيم أمورنا، وما نقدر ننكر حقيقة أنّ الوطن كمان يحتاج وقت للتعافي التام، بعد سقوط نظام إجرامي مثل نظام الأسد".

مخاوف من أن تمر سوريا بأوضاع مشابهة لما عانته خلال السنوات الماضية أو تواجه الأسوأ

ولا تخفي ليليان شعبان، 55 سنة، ابنة محافظة حلب، المقيمة في القاهرة منذ عام 2012، سعادتها بسقوط نظام الأسد، لكنها تشارك سمر تمهلها في العودة حتى تتمكن من ترتيب أمورها في مصر، فلديها 3 أبناء يدرسون في الجامعة.

تقول لـ المنصة "مشتاقة أتنفس هوا الحرية بالشام وأقابل الأهل والأصحاب اللي فرقنا النظام"، نافية أن يكون لديها مخاوف بشأن تقييد حريتها في بلدها بسبب ديانتها المسيحية في ظل سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ذات الخلفية الإسلامية الراديكالية، وترى أن المسيحيين مثل جميع السوريين لم يسلموا من بطش النظام ومعتقلاته.

في المقابل، ترفض غزل مالكي، النازحة من مدينة حلب، المقيمة في القاهرة منذ 12 عامًا، العودة إلى سوريا، رغم سعادتها بانتزاع سوريا من يد الأسد، إذ تخطط للاستقرار في مصر بشكل دائم، كونها أتمت دراستها الثانوية والجامعية فيها وتزوجت مصريًا، وأسست حياة أسرية مستقرة.

ليس ذلك السبب الوحيد، فلدى غزل مخاوف من أن تمر سوريا بأوضاع مشابهة لما عانته خلال السنوات الماضية أو أن تواجه الأسوأ.

تقول لـ المنصة "غادرنا حلب في آخر رحلة خرجت منها عام 2012، وما بقدر أنسى الدراسة وأنا في ثالثة إعدادي على ضوء الشموع والحياة لأيام وأسابيع من غير ولا كهربا ولا مي، غير أصوات القصف والانفجارات جنب البيت، فكنا ننام كلنا في غرفة واحدة بعيدة عن واجهة المنزل من الخوف".

رغم ذلك تطمح غزل إلى زيارة سوريا في المستقبل، "بس مش علطول، لما نتأكد إن الأحوال مستقرة".

الخوف من المستقبل

متظاهرون في ميدان التحرير في القاهرة يتضامنون مع الثورة السورية بعد أسابيع من اندلاعها، 29 أبريل 2011

تشاركها المخاوف رشا عمران، الكاتبة السورية المقيمة في مصر. تقول لـ المنصة "بفكر أرجع على سوريا لو كان رجعتي تخدم الوطن أيًا كانت الظروف"، لكنها تُبقي احتمال الهجرة مفتوحًا "لو ساءت الأوضاع بهاجر على أوروبا".

تنتمي رشا إلى محافظة طرطوس، وخرجت من سوريا في 2012 إلى مصر "عندي بنت وحيدة عايشة بفرنسا"، وتنوي زيارة سوريا قريبًا "فرحتي بسقوط الأسد ما بتعادلها فرحة، لكن أكيد فيه هواجس ومخاوف متل غيري، الأمور بدها شوية وقت لتوضح".

يشاركهما في وجهة النظر المتخوفة من العودة عاطف كلش، وإن كان يقف على أقصى اليسار من الرفض. إذ يبدي ابن مدينة دمشق العاصمة أسفه الشديد لسقوط النظام وحزب البعث السوري، واصفًا لـ المنصة المعارضة المسلحة بـ"الميليشيات الخائنة التي باعت سوريا لإسرائيل مقابل حفنة دولارات".

يعتقد الرجل ذو الأعوام الستين أن بلاده قد ضاعت للأبد "رح تفتت وتتقسم، وما رح ترجع أبدًا سوريا، الفصايل رح ترجع تتقاتل وإسرائيل بتستغل الفرصة وتدخل بري". لذا فهو لا ينوي العودة.

في قلب دمشق القديمة، تربى عاطف على شعارات حب الوطن وحزب البعث السوري، وشهد رحلة صعود عائلة الأسد إلى سدة الحكم، وكان النظام بالنسبة إليه هو حامي الوطن من الفوضى والتمزيق وخطر العدو الإسرائيلي المتربص به، وعندما اندلعت الثورة السورية، شعر عاطف بصدمة عميقة، مع تدهور الأوضاع وتصدر الخطاب الطائفي السني - الشيعي وظهور الجماعات الإسلامية المسلحة، قرر عاطف الهرب إلى مصر، في عام 2015، باعتبارها ملاذاً آمناً، مصطحباً ابنته التي حصلت على منحة دراسية في إحدى الجامعات المصرية.

رغم خسارته لعمله وحياته في سوريا، استطاع عاطف أن يؤسس حياة جديدة في مصر ، إذ تزوج من مصرية، وأسس قاعة للأفراح ببنها في محافظة القليوبية شمال القاهرة حيث يقيم، وفي أعماق قلبه، كان الأمل يتجدد كلما سمع خبرًا عن تحسن الأوضاع في سوريا، أو تلقى رسالة من أحد أقاربه في دمشق، لكنه فقد الأمل بعد صعود الإسلاميين المسلحين إلى سدة الحكم، يقول: "أتمنى يجي يوم أزور فيه دمشق آمنة ومستقرة، دمشق اللي بقدر يعيش فيها الكل بسلام وأمان".

اللاجئون يتزايدون

هذه أيضًا مخاوف الدكتور أيمن زهري، رئيس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة، الذي يستبعد استقرار سوريا خلال العشرة سنوات المقبلة، متوقعًا على عكس ما يقوله السوريون "زيادة عدد اللاجئين خلال المرحلة المقبلة بسبب سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة".

يقول لـ المنصة "الفارق أن نوعية اللاجئين ستختلف، في 2012 نزح السنة والإخوان، وهم أغلب المتحمسين للعودة حاليًا، لكن سيلجأ غيرهم من الخائفين من الحكم الراديكالي"، لافتًا إلى أن كثيرًا من اللاجئين السوريين قضوا شبابهم في مصر وحصلوا على تعليمهم وأسسوا عملهم بها، واصفًا انتماءهم لبلدهم بـ"النوستالجي"، فيما يعتبر آخرون أن مصر دولة ترانزيت للراغبين في الهجرة إلى أوروبا.

يشبه الدكتور عادل عامر، أستاذ القانون ورئيس مركز المصريون للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وضع السوريين في مصر حاليًا بوضعهم وقت إسقاط الوحدة بين مصر وسوريا، عقب انقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر/أيلول 1961، وإعلان قيام الجمهورية العربية السورية، إذ وُجد في مصر أكثر من مليون سوري ووُجد في سوريا ما يعادلهم من المصريين، وكانت تربط بعضهم علاقات مصاهرة، وتُرك الأمر لرغبتهم، ولم تجبرهم الدولة على العودة.

ويشير إلى أن سقوط نظام الأسد ومن قبله إصدار مصر لأول مرة قانونًا لتنظيم لجوء الأجانب، من أجل تقنين أوضاعهم، يجعل الأمر متروكًا للسوريين إما أن يوفقوا أوضاعهم أو يعودوا إلى بلادهم، لافتًا إلى أن علاقات الزواج والمصاهرة مع المصريين، وارتباط الأبناء السوريين بالدراسة في مصر، سيدفع غالبيتهم للبقاء.

وبينما تحتاج كل من سمر ورشا وليليان إلى بعض الوقت لترتيب أمورهن ومراقبة تطورات الأوضاع، يستعد حازم للعودة إلى سوريا في أقرب وقت ممكن قائلًا "بدنا نرجع لنعمر بلدنا".