مصير غامض تنتظره جمعية الفنانين والكتاب، المعروفة بأتيليه القاهرة، بعد 70 عامًا من تدشينها؛ إذ احتدم الصراع بين عدد من أعضاء الجمعية العمومية ورئيس مجلس الإدارة الفنان التشكيلي أحمد الجنايني، وعليه حركت وزارة التضامن الاجتماعي دعوى قضائية رقم 24346 لسنة 78 ق، تطلب فيها حل الكيان بالكامل.
تحرّكُ وزارةالتضامن أثار مخاوف لدى أعضاء الأتيليه وطيف واسع من المثقفين المصريين من أن ينتهي الحال به بالإغلاق كما حدث مع أتيليه الإسكندرية، رافضين أن تتعامل الوزارة مع الكيان الثقافي المصري العريق باعتباره "جمعية لدفن الموتى" أو جمعية خيرية، وليس "مؤسسة ثقافية ذات قيمة عالية"، على حد قول الكاتبة الروائية سلوى بكر لـ المنصة.
وتسرب خبر الخلاف القضائي إلى الوسط الثقافي والمجال العام عبر بوست فيسبوك نشرته سلوى بكر، عضوة الجمعية العمومية، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعدما شاركت صورًا من مناشدتين موجهتين إلى وزارتي الثقافة والتضامن تحملان توقيعات من أدباء وكتاب وفنانين، تطلب فيهما لقاء الوزيرين لاستيضاح أبعاد الخلاف، إضافة إلى طلب موجه إلى رئيس مجلس إدارة الأتيليه للإفصاح عن تفاصيل الخلاف القضائي.
مخالفات إدارية جسيمة
وفق صحيفة الدعوى القضائية التي تختصم فيها التضامن أتيليه القاهرة، وحصلت المنصة على نسخة منها، فإن المخالفات التي تستند إليها الوزارة في دعواها تشمل فصل العضوة دعاء الدسوقي بسبب شراء طعام من خارج بوفيه الأتيليه، إضافة إلى عدم تسليم المستندات الخاصة بقرارات المجلس بشأن الفصل وتجميد عضوية الأعضاء في المواعيد المحددة قانونًا، وعدم تنفيذ أي برامج جدية منذ عام 2021، ومخالفات إدارية أخرى تتعلق بالسجلات والتوثيق.
ويشهد الأتيليه ما يمكن وصفه بصراع أجنحة، إذ يرفض عدد من الأعضاء السياسة التي يتبعها رئيس مجلس الإدارة الحالي أحمد الجنايني، الذي فصل أعضاءً من مجلس الإدارة وجمد عضوية آخرين دون الرجوع إلى رأي الجمعية العمومية، حسب ما جاء في نص الشكوى التي تقدمت بها عضوة الأتيليه المفصولة دعاء الدسوقي ضد الجنايني إلى وزارة التضامن ومسجلة برقم 1015 ش بتاريخ 4 مارس/آذار 2024، ويتزعم الجناح الرافض لسياسات الجنايني كل من سلوى بكر وعبد الحكيم صالح وناجي الشناوي وغيرهم.
وترجم عدد من الأعضاء اعتراضهم على سياسة الجنايني في شكل شكاوى ضده أرسلوها إلى وزارة التضامن، واختصم بعضهم وزارة التضامن نفسها واتهموها بالتقاعس والصمت تجاه ما يرتكبه الجنايني من مخالفات وفق اعتقادهم، ويبدو أن هذا هو السبب الذي استفز التضامن لتحرك دعوى قضائية لا تختصم فيها مجلس الإدارة فحسب، لكنها اختصمت فيها الأتيليه بالكامل لتتخلص من هذا الصداع.
شكاوى كيدية
رد الجنايني على طلب سلوى بكر والموقعين معها من خلال بيان نشره أيضًا على صفحة الأتيليه على فيسبوك وأبدى فيه اندهاشه من طلب الإفصاح عن تفاصيل الخلاف القضائي، مؤكدًا أنه بالفعل عقد اجتماعًا قبل نحو شهر مع عدد من الأعضاء الموقعين على المناشدتين وشرح لهم ملابسات الخلاف. وشدد في البيان على سلامة الموقف القانوني لمجلس الإدارة واصفًا الشكاوى التي تقدم بها بعض أعضاء الجمعية ضده بالكيدية.
وتعليقًا على الأزمة، يقول لـ المنصة إن مجلسه نجح أكثر من مرة في إفشال محاولات غلق الأتيليه في عامي 2015 و2019، نافيًا حجز القضية للحكم أو وقف الأنشطة "نظمنا 180 نشاطًا ثقافيًا خلال 2024. ما يحدث الآن هو مجرد مؤامرة".
بينما يرى عبد الحكيم صالح الفنان التشكيلي والعضو المستقيل من مجلس الإدارة، أن رئيس المجلس الحالي تعمد لفترة طويلة إخفاء أوراق مهمة وتجنب مناقشة الجمعية العمومية في أمور حيوية تخص الأتيليه، معتبرًا أن التباطؤ والتخبط في التعامل مع الأزمة يعكسان سوء إدارة قد تضر بمصلحة المكان وأعضائه، لافتًا إلى أن أعضاء الأتيليه طالبوا رسميًا بأن يكونوا طرفًا في القضية للاستشارة القانونية، لكن الجنايني لم يستجب لهذا الطلب، على حد قوله.
التضامن تستسهل الحل
ولكن هل يحق لوزارة التضامن طلب حل الجمعية وفق المعطيات الحالية؟ تقول الدكتورة ضحى السعدني المحامية بالنقض والإدارية العليا لـ المنصة إن المادة 48 من قانون ممارسة العمل الأهلي حددت 5 حالات على سبيل الحصر يحق فيها للجهة الإدارية أن تطلب من المحكمة المختصة بمجلس الدولة حل الجمعية وتعيين مُصَفٍّ لأموالها، تتلخص فلسفتها جميعًا في عدم توفيق الأوضاع أو مخالفة أغراض التأسيس أو ممارسة أنشطة محظورة أو حجب سجلاتها عن الجهة الإدارية، أي وزارة التضامن في حالة الأتيليه، وعدم تمكينها من مراقبة الأنشطة.
وفي حين ترى التضامن أن مجلس إدارة الأتيليه ارتكب مخالفات إدارية جسيمة تستوجب حل الجمعية، فإن رئيس مجلس إدارة الأتيليه يؤكد سلامة موقفه القانوني، ويبقى الخلاف قائمًا في انتظار أن يفصل القضاء فيه.
ليس جمعية لتأبين الموتى
توضح الروائية سلوى بكر لـ المنصة أن أهمية الأتيليه تكمن في كونه حركة ثقافية نشطة، لا تقتصر على القاهرة وحدها، بل تجذب مبدعي الأقاليم أيضًا.
وعن تبعية الأتيليه لوزارة التضامن الاجتماعي بدلًا من وزارة الثقافة، تقول الروائية "الأتيليه جمعية أهلية غير ربحية، وهذا يفسر تبعيته لوزارة التضامن. وهذه الإشكالية القانونية تُعرقل فهم دور الأتيليه الثقافي لدى العاملين في وزارة التضامن".
تأسس الأتيليه على يد الفنان محمد ناجي في خمسينيات القرن الماضي في محاولة لاستنساخ تجربة أتيليه الإسكندرية المؤسس في 1934، ليكون منارة ثقافية وقبلة أساسية للمبدعين في العاصمة.
ومن بين الأسماء البارزة التي ارتبطت بنشاطات الأتيليه، لويس عوض ويوسف إدريس وطه حسين ومحمود أمين العالم وعز الدين نجيب وجاذبية سري وإنجي أفلاطون، واليوم يواصل المبدعون المعاصرون والشباب السير على الطريق نفسه.
رئيس المجلس الحالي تعمد لفترة طويلة إخفاء أوراق مهمة وتجنب مناقشة الجمعية العمومية في أمور حيوية تخص الأتيليه
وتُبرر بكر تكرار الأزمات التي يواجهها الأتيليه "ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى حقبة الرئيس الراحل أنور السادات"، مشيرة إلى وجود محاولات سابقة لإعادة الأتيليه إلى ورثة مالكته الأصلية ليندا كوهينكا اليهودية من أصل فرنسي، بحجة التخلف عن دفع الإيجار.
وتضيف أنها نجحت بالتعاون مع الفنانة التشكيلية هدى عناني في تسجيل المبنى ضمن نطاق القاهرة الخديوية بالتعاون مع جهاز التنسيق الحضاري، ما يمنع هدمه، ولكن المخاطر تكمن من وجهة نظرها في "تشغيل المبنى بما يتنافى مع دوره الثقافي"، في إشارة إلى احتمالية تحويله إلى نشاط استثماري أو تجاري في حال الحكم بحل الجمعية العمومية وإعادة المبنى إلى الورثة.
ويشير المهندس ناجي الشناوي، عضو جمعية الأتيليه، إلى التهميش الذي يعاني منه المكان خلال الفترة الأخيرة "العديد من الندوات والمعارض لم يُعلن عنها بشكل كافٍ، كما أن الدعوات لم تُوجه للسفارات أو الصحفيين أو المراكز الثقافية، مما تسبب في انخفاض الجودة الفنية للعروض الثقافية مثل ما حدث في الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس الأتيليه هذه السنة"، مبديًا دهشته من تجاهل أسماء وصفها بالكبيرة والفاعلة من أعضاء الأتيليه وعدم إدراجهم بين المكرمين، وهي عيوب جعلت المكان مكانًا طاردًا للجمهور، حسب تعبيره.
وفيما يخص الخطوات العملية لحل الأزمة، يقول الشناوي إن رئيس مجلس الإدارة أعلن عن توكيل محامٍ، لكن أعضاء الأتيليه لم يروا هذا المحامي إلى الآن، كما طالبوا بمقابلة وزيرة التضامن الاجتماعي الدكتورة مايا مرسي ووزير الثقافة الدكتور أحمد هنو لإنقاذ الأتيليه، إضافة إلى التواصل مع عدد من المحامين المتطوعين لتقديم العون.
وبينما تأسس أتيليه القاهرة للحاق بخطى أتيليه الإسكندرية، يكافح محبوه حاليًا حتى لا يلقى نفس المصير. فقصة أتيليه الإسكندرية لاقت نهاية مأساوية بصدور حكم قضائي بإخلاء المبنى وتسليمه للورثة.