تبدو الثقافة في مصر الآن، على أهميتها، معزولة، أو يراد لها أن تكون كذلك، فتُنزع منها أدوارها الحقيقية الرامية إلى تعميق إدراك الفرد لذاته ومجتمعه والعالم حوله، بل الكون كله، عبر نشر المعرفة والوعي، وتعزيز القيم الإيجابية المطلوبة في البناء والنماء، وتبصير الناس بالجمال في نفوسهم وفيما حولهم، والتعبير الفياض عن أشواقهم إلى البهجة والدهشة والحرية والكرامة والكفاية والعدالة والنهوض والتقدم والانتماء.
هذا النزع الإجباري، وربما الاختياري أحيانًا، ساهمت فيه عدة جهات أو جبهات، أولها: السلطة السياسية التي تتعامل مع الثقافة على أنها مجرد "قلادة زينة"، فتفتقد إلى مشروع وطني جامع تقع الثقافة في قلبه، وتقدِّم المباني على المعاني.
وثانيها المجتمع نفسه، الذي ينظر قطاع عريض منه إلى أن التعلم والتثقف، أو تحصيل المعرفة العميقة، أمور يمكن تأجيلها أو تجنيبها لحساب الانشغال بتحسين الأحوال الاقتصادية، أو إنعاش الأحوال السياسية. وثالثها المثقفون، إذ لا يدرك الكثير منهم أهمية دورهم في صناعة النهضة الواجبة، وحين يسقط هؤلاء في الدفاع عن الاستبداد والفساد أو الصمت عليهما.
أما رابع العوامل التي ساهمت في عزل الثقافة، تراجع مستوى التعليم وعدم كفاءة المؤسسات القائمة على الثقافة وضعف إمكاناتها المادية، وعدم إعطاء الثقافة الشعبية منزلتها، أو وزنها النسبي الحقيقي. وخامسها طغيان مشروعات ثقافية عالمية ذات إمكانات جبارة، ووجود من يعملون على إلحاق المثقفين المصريين بمشروعات دولية أو إقليمية.
إن كثيرًا من الدول يشغلها الموقع الذي تحتله على مؤشرات التنمية أو السعادة أو الرفاه، وكذلك المؤشرات التي تقيس مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان، بينما تهمل المؤشرات التي تلتفت إلى عطائها الثقافي، أو إسهامها المعرفي، في العالم المعاصر، وهذه آفة كبرى، لا بد أن يحتشد المثقفون في مواجهتها، وألَّا يقبلوا أن تظل ثقافتهم كسيحةً في الهامش البارد المنسي.
في أي مشروع تنموي، تبدو الثقافة عنصرًا أساسيًا، لأن لا استدامة للتنمية دون سياسة ثقافية، تمس مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والإعلامية والبيئية، وتكون أكثر تقييًدا في تحقيق هذا، لأنها لا تخضع لحسابات الربح والخسارة المادية الآنية، وبالتالي لا يكون دائمًا تأثيرها الإيجابي على الفرد والمجتمع ماديًا مباشرًا، بل معنوي وعلى المدى البعيد. وإن كان ذلك لا يعني أنها في كل الحالات بلا عائد مادي مباشر، فهذا يأتي من خلال الصناعات الثقافية والإبداعية.
من الحتمي فتح المجال لإنشاء مراكز البحوث التي تعمل بشكل مستقل أكاديميًا وماديًا
وفي هذا المقام، نرى أن التنمية الثقافية بمفهومها العام هي عملية واعية ومخططة ترمي إلى صياغة رؤية حضارية، تبدأ من الفرد، من حيث ذاته وهويته وحريته ومدركاته وإبداعه، وتنتهي إلى صياغة العقل الجمعي والحس المشترك للمجتمع بأسره.
وليست التنمية الثقافية مجرد زينة أو شيء هامشي يُستدعى ليُمارس في أوقات الفراغ، إنما هي مشروع يقوم على أسس علمية، وخطة استثمار في الإنسان، ورافد لنهضة حقيقية، وعامل مهم من عوامل الارتقاء بحياة الفرد والمجتمع حين يبدأ بتغيير طرق التفكير إلى الأرقى، ويصل إلى تحسين أحوال المعيشة إلى الأفضل. ولذا فإن المشروع الثقافي لا يمكن إعداده من دون فهم رؤية وأهداف ومحاور المشروع التنموي، باعتبار الأول جزءًا من الثاني.
والثقافة ليست مسألة مجردة أو معلقة في الفراغ إنما هي فعل إيجابي يجب أن يتكئ على عدة مبادئ مهمة، مثل تعزيز الهوية المصرية وروافدها التي حددها الدستور، وتأسيس الذاكرة الجمعية بحيث لا يُترك الأمر لفئة أو جماعة أو مؤسسة تنفرد بهذا، وارتباط الثقافة بقيم الحرية والكرامة والمواطنة والتسامح، وضرورة حماية التراث والنظر إليه باعتباره نبعًا ثقافيًا ومصدر إلهام مهمًا، دون إهمال الأخذ بالتجديد الدائم للرؤى، والانفتاح على الثقافات الأخرى ومحاورتها، مع الالتزام باستعمال اللغة العربية في مختلف مجالات الثقافة.
كذلك لا يمكن الحديث عن مشروعات ثقافية دون ترسيخ احترام تعدد الأفكار، وتوظيف العلم في الفهم والحكم بعيدًا عن الانطباعات العابرة والأحكام الشخصية. وتعزيز العقلانية وإرساء القاعدة التي تؤمن بأن "الفكر لا يواجه إلا بالفكر"، ونبذ التطرف والعنف، وتعزيز قيم إتقان العمل، وصقل المهارة، ورفع الكفاءة، واعتبار هذا مسارًا لا تفريط فيه من أجل تحسين العيش.
وهنا لا بد من توافر شروط، وإعلاء مبادئ، وتطبيق إجراءات، وكل هذا معًا، في سبيل إنجاز تنمية ثقافية حقيقية، وفق استراتيجية تحكم خطط وسياسات مختلف المؤسسات المنخرطة في هذا المجال، وتخط ملامح البرامج التي تنطق في هذا الاتجاه.
يبنغي أن تعمل هذه الاستراتيجية على حض أطفالنا منذ الصغر على القراءة بلا حدود وفي كل الاتجاهات والاهتمام بالفنون، بعد مد دور الحضانة بالوسائل التثقيفية والترفيهية، التي تطلق بناء المعرفة على أساس سليم، وتملأ الوجدان بكل ما هو جميل، وتربط الفرد تباعًا بروافد الثقافة، ليؤمن بمرور الوقت أنها ضرورة حياتية.
وكذلك دعم مبادرات إنشاء مراكز ومجالس ومنابر ومنصات وصالونات وورش عمل ثقافية غير حكومية، وتشجيعها على تنظيم المؤتمرات والندوات والمحاضرات والقوافل الثقافية. فالثقافة ليست قضية الدولة وحدها، إنما يُناط بها وضع السياسة الثقافية بمشاركة القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة، وتوفير الأُطر التشريعية الداعمة للثقافة.
ثم إنه من الحتمي فتح المجال لإنشاء مراكز البحوث الثقافية في مختلف الجامعات، تنظر إلى الثقافة بمعناها الشامل، وتعمل بشكل مستقل أكاديميًا وماديًا، وتجد توصياتها طريقها إلى التنفيذ.
كما أن على الدولة العودة لرعاية المهرجانات الثقافية، وتكريم المبدعين، ودعم النشر، وتوفير أماكن لتقديم الفنون المسرحية والبصرية والفعاليات الأدبية ومختلف المناقشات التي تنصب على الظواهر الإنسانية والطبيعية. وكذلك إنشاء فروع لمعاهد الموسيقى والسينما والمسرح خارج العاصمة لالتقاط المواهب.
بالتوازي مع كل ذلك التنسيق مع المنظمات الإقليمية والدولية العاملة في حقل الثقافة، بغية التفاعل الخلَّاق معها، والاستفادة من برامجها في تدريب العاملين في مختلف المؤسسات الثقافية، وإطلاعهم على التجارب الفعالة في هذا المضمار، وحضهم، ليس فقط على أن يحذو حذوها، إنما يجتهدوا في تقديم إسهام ثقافي مهم.
وحتى يصبح الإصلاح الثقافي ذا جدوى أكثر، لا بد أن يأتي ضمن إصلاح شامل، ينصرف بالأساس على ما هو سياسي وتشريعي، ورفع كفاءة إدارة الدولة، وهذا يتطلب إنهاء الانفراد بالقرار، والإنصات إلى أهل الخبرة، وتوظيف العلم في صناعة القرار واتخاذه، وتحديث منظومة العمل وتنظيمها، واعتماد اللامركزية في الإدارة، مع تعزيز الممارسة الديمقراطية، ومحاربة الفساد، ووضع كل شيء تحت مراقبة ومحاسبة ومساءلة المؤسسات والهيئات المنوط بها القيام بذلك، وإعلاء سيادة القانون، ومبدأ المواطنة.