برخصة المشاع الإبداعي: askii، فليكر
كنيسة القديسة مريم العذراء بوسط القاهرة، 29 نوفمبر 2009

فصول للفقراء في كنائس "الناس النضيفة"

منشور الأحد 22 ديسمبر 2024

لم تعد سالي البالغة من العمر 17 سنة، ولا أخوها جون الذي يصغرها بثلاثة أعوام، متحمسين لحضور اجتماعات مدارس الأحد في كنيسة العذراء وماريوحنا في منطقة باب اللوق بحي عابدين وسط القاهرة، التي اعتادا ارتيادها منذ الصغر. تَهَرُّبُ الطفلين من الحضور أثار مخاوف الأم الأربعينية هالة إسحق العاملة بمستشفى خاص، من أن يكون ذلك مؤشرًا على تأثر علاقتهما بالكنيسة.

مدارس الأحد هي نشاط تقدمه الكنائس، يشمل فصولًا للمراحل الدراسية والفئات المختلفة تحت اسم "اجتماعات"، منها فصول لابتدائي وإعدادي وثانوي، وكذلك اجتماعات للشباب والأسر والسيدات والمسنين، تشمل فقرات من الترنيم ودراسة الكتاب المقدس والموضوعات الروحية أو الاجتماعية، يعلِّم فيها قساوسة الكنيسة إلى جانب معلمين متطوعين يُطلق عليهم خُدَّام. كما تنظم رحلات وأنشطة صيفية يعد أكبرها مهرجان الكرازة

كانت الأم حريصة على اختيار مجتمع كنسي راقٍ لطفليها من وجهة نظرها، وإن كلفها هذا المال والجهد، إذ تسكن الأسرة في حي المرج في أقصى شمال شرق القاهرة، ما يعني أن الطفلين سيضطران لقطع مسافة تتجاوز 26 كيلومترًا يوميًا إيابًا وذهابًا مرة واحدة في الأسبوع أملًا في أن يرفع اختلاطهما بأقرانهما في المدرسة الكنسية ممن تصفهم الأم بـ"أولاد الناس النضيفة" من مستواهما التعليمي.

اختيار هالة كلفها أعباءً مالية تفوق قدرتها، لأنها العائل الوحيد للأسرة التي تخلى عنها الزوج وسحب يده من المشاركة في الإنفاق على الطفلين.

تلتزم الأم التي تحصل على راتب يقل عن الحد الأدنى للأجور بتوفير المال الإضافي لطفليها لمساعدتهما على مجاراة أبناء الحي الراقي في اختيار الملابس والأحذية التي تناسب الأماكن التي يترددان عليها، ودفع رسوم الاشتراك في الرحلات والمصايف مرتفعة التكلفة التي تنظمها المدرسة. تقبل الأم بكل هذا خشية أن يتسرب إلى طفليها الشعور بالدونية إذا قارنا حالهما بأحوال أقرانهما في مدرسة الأحد الكنسية.

محاولة للفهم

رغم ما تكبدته من معاناة، فشلت هالة في تحقيق هدفها من إلحاق طفليها بمدرسة الأحد بإحدى كنائس الأحياء الراقية، بعد صدور توجيه داخلي صدر في العام 2015 بتقسيم مدارس الأحد التابعة للكنيسة حسب نوعية المدارس التي يرتادها الطلاب، بحيث تُخصص أوقات لطلاب مدارس الإنترناشونال أو الدولية، وأخرى للناشونال الخاصة عربي أو لغات، والثالثة للمدارس الحكومية العادية.

هذا التقسيم المبني على التمييز الطبقي فتح الباب للتنمر وإساءة التعامل بين الأطفال، بعد أن تحدد موقع كل واحد منهم داخل مدارس الأحد وفق طبقته الاجتماعية، لأنه في الغالب يرتاد الأغنياء مدارس الإنترناشونال، وأبناء الطبقة المتوسطة يرتادون الناشونال، والفقراء يرتادون المدارس الحكومية.

يفسر الطفلان نفورهما من ارتياد المدرسة الكنسية والمشاركة في الأنشطة الأخرى بأنه نتيجة شعورهما بالدونية ووجود فوارق اقتصادية شاسعة مقارنة بزملائهما في المدرسة والنظرات التي وصفاها بأنها مملوءة بالتعالي، ورفض أقرانهما في بعض الأحيان مشاركتهما في اللعب أو الجلوس بجوارهما في أتوبيس الرحلة أو اللعب في المسبح أو المشاركة في غرف الإقامة في الرحلات والمصايف.

تخصيص يوم مدرسة الأحد لمرتادي المدارس العربي مع يوم توزيع معونة إخوة الرب نوع من الوصم

ويصف الشقيقان موقف الخُدَّام أو المعلمين المتطوعين بمدارس الأحد من التنمر أو إساءة السلوك بين الطلاب، بأنه ضعيف وفي الغالب ينحازون لأبناء الأغنياء ونادرًا ما يحصل أبناء الفقراء على جزء من الاهتمام أو الإنصاف.

يقول جون "اكتشف زمايلي إني فقير وخدوا بالهم إن ماما بتاخد مساعدات مع إخوة الرب ومن وقتها مش عايزين يِعرفونا. قبل كده كنا بنحضر سوا ونلعب ونسافر سوا ما فيش أي إحساس بالفرق بينا وبين بعض". 

تعبِّر سالي عن مشاعرها بحزن "بدأوا يعايروني إن أمي مش بتعرف تقرا وتكتب، وشوية وبدأوا يتهامسوا إن عندي حشرات في شعري، وده خلاهم يبقوا رافضين يشاركوني الأوضة في الرحلات".

دائرة خاصة للأغنياء

اللجان التحضيرية لمهرجان المرقسية 2025، المنعقدة 13 أكتوبر 2024.

"على طريقة محمد رمضان نمبر وان تأسست فصول وان" بكنيسة العذراء والأنبا بيشوي بالتجمع الخامس شرق القاهرة، حسب وصف الصحفية مرجريت عادل الخادمة بالكنيسة، والأم لأبناء بمدارس ناشونال.

تقول لـ المنصة "تضم المنطقة التي فيها الكنيسة، مدارس بكل فئاتها لحد ما فاجئونا بتقسيمة جديدة". لا تعترض مرجريت على تقسيم مدارس الأحد لإنجليزية وأخرى عربية، أو تحديد أكثر من موعد ليتوافق مع طبيعة عمل البعض، لكنها تعترض على ما وصفته بـ"الفرز الطبقي"، موضحة "بقى فيه مدارس إنترناشونال ومدارس ناشونال ومدارس عربي، والأسوأ تحديد يوم التلات للمدارس العربي، وهو نفس اليوم اللي بيجتمع فيه إخوة الرب". وإخوة الرب هو التعبير الكنسي للمحتاجين الذين تتولى الكنيسة رعايتهم ماديًا.

ترى مرجريت أن جمع مدرسة الأحد لمرتادي المدارس العربي مع إخوة الرب نوع من الوصم للأهالي والأطفال بما يتعارض مع وصية الإنجيل العطاء في الخفاء، تقول "أي حد بيزور الكنيسة في اليوم ده بيتوصم إنه بياخد معونة".

فيما ترى شيرين وصفي الخادمة بفصول"وان" أن تحديد فصول للمدارس الإنترناشونال جاء كرد فعل على ضغط الأهالي، "ناس أغنيا وحاطين نفسهم في دايرة مش عايزين حد مش شبههم يدخلها"، موضحة "التصنيف بقى بيحصل بشكل تلقائي، لأن فيه حاجز نفسي وطبقي، العيال مش بتعرف تجاري زمايلهم اللي معاهم فلوس". 

الفقراء بلا حماية

تنظم الكنيسة الإنجيلية بالعمرانية عددًا من الأنشطة الجاذبة للشباب

تعتبر دكتورة سامية قدري أستاذة علم الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس أن هذا التمييز يتسبب في شعور مؤلم لدى الأطفال الأقل اجتماعيًا.

تسترجع سامية النصيحة التي كانت تلتزم بها وقت كانت مسؤولة عن مدارس الأحد بكنيسة الشهيدة دميانة بالعمرانية في الجيزة، وهي آية "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى". فالأولى بالرعاية هم الأكثر احتياجًا.

تؤمِن سامية أن دور الكنيسة هو تحقيق شعور بالتساوي، "ده اللي كنا بنعمله، في المصايف نديهم كلهم هدايا مايوهات عشان كله يبقى زي بعضه، ونعمل الأكل بإيدينا والعيال تاكل جنب بعض"، تعتقد سامية أن تجربتها نجحت في تحدي الطبقية، تقول "العدالة والمساواة في الحب والاهتمام هامة للغاية لأنها رسالة المسيح الذي أوصى 'دعوا الأولاد يأتون إليَّ'".

تخشى أستاذة علم الاجتماع من أن يؤثر التمييز الطبقي على موقف الأقباط من كنيستهم، "الكنيسة منذ نشأتها تضم جميع فئات المسيحيين وكلما سقط أحد الأساقفة في التمييز بين الفقراء والأغنياء تحدث ثورة ضده ويَهجروا الكنيسة".

بينما ترفض سامية التفرقة الطبقية في مدارس الأحد، تشير إلى مميزات الدمج "يخلق تنافسية ودافع للأطفال للتعاطف بينهم والشعور بغيرهم".

لا تقتصر مشكلات تقسيم مدارس الأحد على التنمر فحسب. تروي سالي الطالبة بإحدى المدارس الثانوية الفنية وقائع اتهام زميلة لها بمدارس الأحد بسرقة مايوه "فضلت ليلة كاملة بعيط بحرقة وما أكلتش خالص، ومشرفين الرحلة هدوني ووعدوا البنت إنهم يجيبولها غيره وأحسن منه، وكمان جابولي أنا واحد، لكن ده حسسني إنهم مصدقين إني خدته عشان عيني منه".

تقول لـ المنصة إن التهمة بقيت لصيقة بها رغم اعتراف زميلتها فيما بعد أنها عثرت على المايوه الذي كان ضائعًا، لكنها لم تعلن ذلك خوفًا على صورتها بين أقرانها.

الكنيسة تجاري المدللين

على الجانب الآخر يدافع القس روفائيل قليني صاحب فكرة تقسيم مدارس الأحد بإحدى كنائس الأحياء الراقية منذ 2013 وكاهن كنيسة الأنبا شنودة بحي الزلزال بالمقطم حاليًا، "لم يأتِ قرار التقسيم من فراغ بل نتج عن مواقف حتمت الخطوة" هكذا يبرِّر القرار لـ المنصة "اتفاجئنا بطفل مش عايز يقعد جنب ابن الغفير، وقال أنا ما اقعدش جنب ده، بالرغم إن ده متفوق ومميز أخلاقيًا". يعتقد قليني أن التوجيه المباشر ليس دور الكنيسة، "نكتفي بالوعظ عمومًا".

يتجاوز الأمر مقاعد الدراسة إلى الأنشطة الصيفية، يقول "بنواجه مشكلة إننا نختار مكان مصيف يناسب الشريحتين، المصيف المتوسط مش هيجذب اللي بيدروسوا في الإنترناشونال وبيروحوا أفخم الفنادق وبيعملوا أعياد ميلادهم في ديزني لاند ويعزموا صحابهم ويحجزولهم طيران، من الناحية التانية اللي ماعندوش مقدرة يحجز الرحلة دي هيكلف الكنيسة مبلغ كبير لدعمه".

يلاحظ كاهن الكنيسة أن الأطفال من أبناء الطبقات العاملة يشعرون بالفروق بينهم وبين غيرهم "بلاقيهم مستخبيين تحت الكراسي مش عايزين حد يشوفهم"، مؤكدًا أن الفروق ليست اقتصادية فقط ولكنها فروق لغة وثقافة وسلوك ومظهر.

ويضيف "حتى في القداسات الكبيرة البوابين وأولادهم بتلاقيهم من نفسهم واخدين آخر ركن في الكنيسة عشان ما يقعدوش جنب اللي بيخدموهم، هو مش بيبقى حاسس براحة وسط التجمع، وهما شكلهم باين بالجلابية والطرحة"، ويستدرك "مانقدرش نجمعهم غير في الكشافة عشان عقيدتها البساطة والاعتماد على البيئة والزي الموحد".

تمييز من أجل بيئة آمنة

لا يأتي الشعور بالفوارق من الأسفل للأعلى فحسب، يرى الكاهن أن العكس يحدث أيضًا مدللًا على ذلك "كان فيه تلميذة عانت من التنمر  في كنيسة مارمرقس، من أشهر كنائس مصر الجديدة، بسبب إن دراستها إنترناشونال وما بتتكلمش عربي وبتستخدم الكتب المترجمة، واتعرضت للسخرية وانقطعت عن الكنيسة ولما عرفت بتقسيم مدارس الأحد بكنايس التجمع رجعت وشكرتني على هذا القرار لتوفير بيئة آمنة".

هذ التقسيم الطبقي الحاد، يجعل البعض يقف على الحياد، لا ينتمي لهؤلاء ولا أولئك، مثل آن رامز التي تبلغ من العمر 16 سنة. آن تدرُس بمدارس ناشونال، والدها طبيب ووالدتها أستاذة جامعية، مستوى اللغة لديها أعلى من المدارس الحكومية وأقل من الإنترناشونال، تقول لـ المنصة "مش عارفة أنا بنتمي لأي طبقة. تايهة وسط كنيستي وبتمنى ما احضرش خالص" فهي لم تستطع مجاراة الأغنياء ولم تتمكن من مشاركة الفقراء مقاعدهم.

القداسات في الأحياء الراقية عادة مقسمة تلقائيًا

يعتقد قليني أن فكرة التقسيم نجحت يقول "كنا بنجمع الأطفال الجمعة، وقسمناهم اللغات مساء السبت، والحكومي الخميس، حاول الأهالي البسطاء اقتحام الكنيسة لإدخال أبنائهم عنوة يوم السبت للاستفادة من الهدايا العينية، فخليناهم يوم الخميس زي ما هما، وبقينا نوزع هدايا قيّمة وأكل مجاني واتسع جدول اليوم ليبدأ بالقداس الخاص بهم، لذلك تضاعف العدد من 70 لـ 140 في شهر واحد وده دليل إنهم حسوا إن الوسط مريح لهم نفسيًا"، مؤكدًا أن القداسات في الأحياء الراقية عادة مقسمة تلقائيًا الأحد للفئة الأعلى ورجال الأعمال، والسبت للموظفين والبسطاء ، أما الجمعة فشامل. 

من جهته، يعلّق القمص موسى إبراهيم المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، على تقسيم الخدمة على أساس نوع التعليم أنها تحمل وجهة نظر رعوية. يوضح لـ المنصة "اختلاف المناهج الدراسية يؤثر على المعرفة الثقافية لدى التلاميذ، ما يؤدي لتباين واضح لذا يجب مراعاة مخاطبة كل مستوى تعليمي وفقًا للثقافة والمفاهيم والأسلوب واللغة".

ينفي المتحدث الرسمي صفة التمييز عن التقسيم، مؤكدًا "هو اهتمام يحسب للكنيسة في اختيارها لغة الخطاب، وحرصها على عدم التفريق بين أبنائها بدليل أنها منحت مساحة تعلم للجميع"، وأن هذه الرؤية لا وجود لها في الفكر الكنسي، لافتًا "أي شكل تنظيمي هدفه جودة الرسالة وتناسبها مع الخلفية الاجتماعية للأطفال، منها الأنشطة الترفيهة كالرحلات والمصايف كلها لها أهداف ورسالة رعوية وخدمية".

الخطة التي تبدو ناجحة على الورق ليست كذلك على أرض الواقع، فسالي وجون لا يرغبان في ارتياد كنيسة الأغنياء التي تشعرهما بالدونية، وربما يتوقفان قريبًا عن الذهاب إلى مدارس الأحد.