Vladimir Varfolomeev-فليكر
مدينة بيروت القديمة

بيروت بين ثلاث لحظات| البحث عن الأسطورة

منشور الأربعاء 8 يناير 2025

في أواخر الثمانينيات، ومع بداية المرحلة الثانوية، كان طلاب مدرستنا، مثل غيرهم من طلاب سائر المدارس المصرية من جيلي والجيلين السابقين له على الأقل، يتحدثون بيقين عن فيلم إباحي عربي صُوِّر في لبنان، من بطولة المغنية وردة الجزائرية.

يحكي الجميع، كمشاهدين، عن فيلم لم يرونه. بل يتحدثون عن تفاصيل مشهد محدد منه، لا أكثر، وكأن الفيلم هو هذا المشهد وفقط، وكيف في نهايته عدلت وردة من رقدتها عارية، فوق مائدة يتجمع حولها رجال يلعبون الورق على جسدها، لتواجه الكاميرا، وتعتذر للشعب المصري عن قيامها بالتمثيل في فيلم إباحي. معتذرة بأن المقابل ضخم؛ مليون جنيه مصري.

لم يفسر أيٌّ من رواة المشهد لماذا تعتذر وردة للشعب المصري تحديدًا، بدلًا من أن تعتذر لشعبها الجزائري مثلًا، أو لجمهورها العربي الواسع. وحين يطلب تلميذ مستمع من زميله التلميذ راوي المشهد، أن يشاهد معه هذا الفيلم الإباحي، تظهر الأعذار المختلفة؛ تَلَف الشريط، أو أنه كان مستعارًا وعاد لصاحبه، أو أن الأهل لا يملكون أصلًا جهازًا لعرض شرائط الـVHS، وصولًا لأغرب الأعذار؛ "وجده أبي، عاقبني، وصادره".

يكتشف التلميذ من جيلنا، حين ينضج قليلًا، أن الجميع يتحدثون عن فيلم لم يشاهدوه، ولم يُنتَج سوى في مخيلاتهم، نتيجة لحملة شائعات لم نعرف مصدرها. ولم نعرف كذلك لماذا اختيرت وردة تحديدًا لتكون بطلة هذا الفيلم المزعوم. عند النضج تنكمش الأسطورة الإباحية، لكنها تظل مرتبطة ببيروت، مُجسَّدةً في بعض المشاهد الحميمية العابرة، لأفلام صوَّرها ممثلون مصريون في لبنان، مثل سيدة الأقمار السوداء (1971) وغيره.

الجنس والحريات الشخصية كانا من ضمن العناصر التي شكلت جزءًا لا يستهان به من الأسطورة البيروتية نفسها. لتُكملها منتجات ثقافية أكثر قيمة، وأكثر حقيقية من أكذوبة فيلم إباحي، مثل رواية صنع الله إبراهيم بيروت بيروت، التي أخذتها في مطلع الألفية عنوانًا لمشروع تسجيلي لاكتشاف الأسطورة البيروتية، بجوانبها المختلفة، ومن ضمنها الانفتاح الأخلاقي/الجنسي، في غياب سلطة سياسية قامعة لأجساد الأفراد ورغباتهم، على عكس حال بقية العالم العربي المحافظ والتقليدي، الذي لا يزال الجنس من ضمن تابوهاته الكبرى.

أسطورة تحت الظلال السورية

ساحة الشهداء، بيروت، 1982

ذهبت لبيروت ثلاث مرات؛ زيارتان طويلتان للعمل والتصوير، وزيارة قصيرة لـ"الفرجة" بعد أعوام طويلة من الغياب. لعب الحظ دورًا في أن تقع كل زيارة في لحظة زمنية مختلفة تمامًا عن الأخرى، ومرتبطة بالسلطة الحاكمة لجارة لبنان، سوريا.

جاءت الزيارة الأولى في شتاء 2004، والثانية في شتاء 2005. وكان عليَّ الانتظار 19 عامًا لأقوم بزيارتي الثالثة؛ زيارة الاستكشاف السريعة، بعد أيام قليلة من بداية الهدنة الأخيرة، وتحديدًا في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولم يكن أسبوع مرَّ على انهيار سلطة عائلة الأسد في سوريا.

كانت زيارتي الأولى للبحث عن الأسطورة البيروتية، التي تكرست عبر عقود في أذهان ومخيلات آلاف المثقفين واليساريين العرب بداية من الستينيات، وصولًا لخروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت خريف 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار العاصمة، وقبل احتلالها. وهي الأسطورة التي امتدت بعدها لسنوات، مرورًا بانتهاء الحرب الأهلية، وتُوِّجت بتحرير الجنوب عام 2000.

تخلَّصت في المرة الأولى من ثِقل الأسطورة. اكتشفت أنها أسطورة، بما تعنيه من حكاية خيالية تستند على بعض الحقيقة المُبالغ في روايتها. كان لبنان وقتها يعيش تحت الوجود السلطوي المخابراتي السوري، حيث تتحكم الدولة الجارة في شأنه الداخلي، لدرجة أن أكاديميًا لبنانيًا، كان يعمل وقتها رئيسًا للجامعة اللبنانية الأمريكية في قلب بيروت، هددني بتسليمي للمخابرات السورية، لا الأمن اللبناني، لمجرد أنني أجريت بصحبة المصور اللبناني علي زراقط، حوارات سريعة مع بعض الطلاب في فناء جامعته دون إذنه.

كان نصيبي ونصيب علي مجرد التهديد، لكن مصائر الآخرين تحت هذا الثقل السوري كانت مختلفة، ووصلت للقتل أو الإخفاء القسري أو تدمير الحياة أو الاعتقال، حسب درجة أهمية الشخص، ودرجة عدائه لنظام الأسد، الأب والابن.

شكلت لحظة 1982 تحولًا في شكل الأسطورة وليس نهاية لها

عُدت إلى بيروت مجددًا بعدها بسنة، وقد تخلَّصَت من ثقل الوجود العسكري/السلطوي السوري المباشر. لكنها كانت تعيش تحت ثقل سلسلة من عمليات الاغتيال المتتالية لشخصيات متنوعة تنتمي لأطياف سياسية وفكرية مختلفة. بدأت باغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، واستمرت لتطول آخرين. وبالصدفة، اغتيل الصحفي جبران تويني يوم 12 ديسمبر 2005، في اليوم التالي لوصولي مع فريق الفيلم إلى هناك.

كأن العاصمة والبلد تخلصا من ثقل الوجود المباشر للدولة السورية، لتبقى تحت ثقل الوجود غير المباشر. وجود شبحي، تُرى آثاره بوضوح في قرارات تتخذها جهات مجهولة/معلومة باغتيالات. كانت كذلك لحظة للترقب، ولسؤال اللبنانيين لأنفسهم وللآخرين عما هو آت، وإن كانوا سيعيشون حربًا أهلية جديدة.

وخلال 19 عامًا من الغياب، من يناير/كانون الثاني 2006 لديسمبر 2024، تغير الكثير، وحدث الكثير؛ حرب تموز 2006، تفكك وانهيار قوى سياسية وحكومات، انهيار الاقتصاد اللبناني، انتفاضات وثورات صغيرة أخفقت، انفجار المرفأ؛ الأكبر في تاريخ المدينة، وغيرها من أحداث.

أذهب لبيروت هذه المرة تحديدًا بعد حرب إسرائيل ضد الشعب اللبناني وحزب الله، التي شهدت العديد من المفاجآت والكوارث، وتدميرًا شاملًا لمناطق واسعة من جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت. ناهيك عن هروب بشار وعائلته قبل زيارتي بأيام قليلة، واتجاه مئات من رجاله وعائلاتهم سرًا للبنان. وكأن سوريا دائمًا ما تلقي بظلالها على زياراتي البيروتية.

لفت انتباهي عند عودتي للقاهرة، أن أغلب من تحدثت معهم عن هذه الرحلة، سألوني "هل رأيت الدمار؟". وكأن زائر بيروت لن يستطيع أن يقول إنه زارها بعد اغتيال حسن نصر الله، إلا إذا رأى، قبل أي شيء آخر، الخراب الكبير في الضاحية الجنوبية، أو الحفرة الهائلة التي أحدثتها إسرائيل لتقتل رجلًا واحدًا.

هذه المرة لم أهتم كثيرًا، على عكس الزيارتين السابقتين، بمشاهدة الدمار. تركته للساعة الأخيرة، وكأنني أقرر بشكل غير واعٍ ألَّا أراه، وإن ظلَّت بعض آثاره مرئية على أطراف حارة حريك في الطريق لمغادرة بيروت. فهذا الدمار تحديدًا لا ينتمي للأسطورة القديمة عن بيروت.

إلى الحرية.. إلى السلاح

أغلب من تحدثت معهم عن هذه الرحلة، سألوني نفس السؤال "هل رأيت الدمار؟"

لم تتوقف الأسطورة البيروتية عند حدود الجنس والحريات الشخصية. امتدت للثقافة والسياسة والثورة. تتجاوز كذبة الفيلم الإباحي الذي يتحدث عنه الجميع دون أن يشاهدوه، لتكتمل صورةُ مدينةٍ حرةٍ وثائرةٍ، حتى وهي محتلة من الجيش الإسرائيلي، أو محكومة بحواجز المسلحين وأمراء الحرب الأهلية.

اتسعت صورة الأسطورة البيروتية بعناصر أخرى؛ وجود أفضل دور النشر وأكثرها تقدمًا وانفتاحًا، حيث تطبع الكتب الممنوعة في العالم العربي، لتُهرَّب لبعض مكتباته لاحقًا. مدينة يعيش فيها آلاف المثقفين والمبدعين والمناضلين العرب، يتخذون منها ملجأً بعيدًا عن سطوة القمع في بلادهم. مدينة تحتضن الثورة الفلسطينية؛ غابة البنادق، أو "جمهورية الفكهاني"، بتعبير ياسر عرفات، والمنسوبة للحي البيروتي الذي تمركزت فيه أغلب مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية.

إن اتسعت الصورة الأسطورية أكثر من بيروت، سنجد من ملامحها، مخيمات اللاجئين/معامل الثورة، معسكرات الفدائيين، السلاح المشهر في وجه إسرائيل، اليسار اللبناني والقوى الوطنية التي تخوض صراعها مع دولة الاحتلال. لتصل في ذروتها الرومانسية ببيان الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، المعروف بـ"إلى السلاح"، معلنين تشكيل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي، التي أجبرته، بالتعاون مع قوى لبنانية أخرى، على الانسحاب غير المشروط من بيروت، والاكتفاء باحتلال الجنوب، حيث تلاحقه عمليات المقاومة.

شكلت 1982 تحولًا في شكل الأسطورة، وليس نهاية لها، لتمتد لمسار طويل شهد إسقاط معاهدة 17 أيار للسلام مع إسرائيل، وبعد سنوات طويلة إجبار حزبِ الله إسرائيلَ على الانسحاب من الأراضي اللبنانية عام 2000، دون أي اتفاقيات سياسية أو أمنية، بعد احتكاره للمقاومة الجنوبية بمساعدة المخابرات السورية.

تكتمل هنا قطع الموزايك التي تشكل صورة الأسطورة اللبنانية/البيروتية، بداية بما هو جنسي أو في صلب الحريات الشخصية، وصولًا للمقاومة والسلاح، مرورًا بما هو ثقافي وأدبي وفني. دون نسيان أنها تغذت على صوت فيروز، وموسيقى وكلمات الرحابنة، واكتملت عند اليساريين بأغاني زياد الرحباني وبرنامجه النقدي الساخر في إذاعة صوت الشعب التابعة للحزب الشيوعي اللبناني، وأغاني مارسيل خليفة، ومن ضمنها أجمل الأمهات، التي سأتناولها في المقال المقبل، وغيرها.

ربما ينقص هذه الصورة تأنق الطبقة الوسطى اللبنانية في المظهر، اهتمامهم البالغ بالواجهة، بأن تلمع الأشياء، سواء في المحلات والمطاعم، أو الملابس، أو الهيئة الشخصية. وهو ما لم تستطع إسرائيل إنهاءه عبر اجتياحاتها وحروبها المتتالية، ولم يُنهِه عدوانها الأخير، رغم الصدمة التي أحدثها للبنانيين، ورغم الشوارع التي أصبحت تهدأ وتنام مبكرًا، على غير العادة.

إلى الذاكرة

في مقهى/مطعم، بمنطقة الحمراء برأس بيروت، في منتصف النهار، تغني أسمهان "إمتى هتعرف إمتى.. إني بحبك أنت؟!"، وكأنها تُجمِّد الزمن، النفسي على الأقل، أو تعيده للحظة سابقة، لحظة قبل عقود، لم يعشها أغلب رواد المقهى. ربما عاشتها تلك المرأة المسنة التي تسير بتمهّل بالغ لتقترب من إحدى موائد الجزء المفتوح على الشارع من المقهى/المطعم.

تسير المرأة متمهلةً بسبب سنها المتقدمة، وضعف جسدها الواضح، رغم إخفائه، بتأنق بالغ، بكوفية حمراء. تُخبر جارها الجالس على المائدة المجاورة أنها تأتي لهذا المكان بانتظام، كل يوم جمعة، لتأكل السمك. يخبرها النادل بأنهم لا يقدمون، ولم يقدموا أبدًا، السمك. ترتبك، تستمر في جلوسها لدقائق، مخفية بابتسامتها ارتباكها، تتأكد بيديها من أن كوفيتها في وضع مُهندم، لتخبر جار المائدة المجاورة، بينما صوت أسمهان ما زال يُحلق في المكان، بأنها لا بد وأن تكون نسيت اسم ومكان المطعم الأصلي.

تنهض لتبدأ رحلة البحث عنه، بنفس الاعتداد والتأنق، البيروتي، وإن كان في زمن الموت والدمار. وما زال الحبيب الذي تغني له أسمهان لم يخبرها متى سيعرف بأنها تحبه هو تحديدًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.