الصليب الأحمر - تويتر
المتطوعة الإسبانية في الصليب الأحمر لونا رييس تحتضن مهاجرًا غير نظامي على سواحل جيب سبتة، الخاضع للسيادة الإسبانية على السواحل المغربية. مايو 2021

لهم وجوه لتُرى وتُخلَّد.. حكايات قصيرة لرأس السنة

منشور الثلاثاء 31 ديسمبر 2024

زار صديقٌ سينمائيٌّ برازيليٌّ البرتغال للسياحة قبل بضعة أسابيع. في مكان ما، وبينما يُصوِّر بعض معالم المكان بكاميرته الفوتوغرافية المتطورة الحديثة، اقترب منه شاب وفتاة يبدو على ملامحهما أنهما إفريقيان. طلبا منه تصويرهما بهذه الكاميرا، ابتسما أمام عدسته واحتضن أحدهما الآخر كحبيبين.

التقط صديقي لهما عدة صور، ثم طلب منهما رقم تليفون لإرسالها، فأجاباه بأنهما لا يريدان الصور، كل ما كانا يريدانه هو أن تكون لهما صورة بكاميرا جيدة، أن يراهما، وأن يحتفظ في ذاكرته بوجهيهما. ربما أرادا، دون أن يعيا ذلك، أن يبقيا خالدين للأبد في لحظة الحب والفرح التي كانا يعيشانها، ولو عبر كاميرا شخص لن يقابلاه مرةً أخرى.

حكى لي صديقي هذه القصة، وأراني صورتهما، فتذكرت فورًا ذلك الشعار الذي رددناه قبل شهور، قاصدين به أهل غزة، الضحايا المباشرين للإبادة، بأنهم "ليسوا أرقامًا". هذا الشعار الذي التقطت جوهرَه الرسامة سالي سمير في كتابها الذي حمل العنوان نفسه، ورسمت فيه وجوه فلسطينيين من غزة، وإلى جوارها جملٌ انتشرت لهم خلال الإبادة، ليستطيع أطفالنا في المستقبل التعرف عليهم، ويعرفوا ما حدث لهم، ويحفظوا كلماتهم، حتى وإن لم يُجسِّد الرسم وجوههم بدقة. فالكلمات أيضًا، مع خطوط بسيطة أقرب للطفولية، كخطوط سالي، تعيد إحياء الشخص، تعيد خلق ملامحه، وتجعلنا نتذكره من جديد.

وجهٌ للقمر

وجهان إفريقيان في البرتغال، نوفمبر 2024

لا نعرف ملامح القمر، ليس للقمر وجه. له سطح غامض رأيناه في الأفلام والصور الملتقطة بمناظير علمية متطورة. لكنه، ولأنه مستدير، وربما بسبب غموضه، استعرناه شعبيًا لنستخدمه في وصف "الحلاوة"، أو جمال الوجه؛ "زي القمر". حتى في إظلامه أو عدم اكتماله، لا يفقد القمر بلاغته وتعبيره عن الجمال.

القمر بالإسبانية "لونا". ونحن، جمهور المتابعين طوال العقود الماضية لكوارث محاولات اللجوء والهجرة المتتالية بالقوارب الصغيرة، وعبور الحدود الخطرة والموانع المائية من أجل حياة أفضل، عرفنا قبل سنوات قليلة لونا رييس.

ما فعلته لونا كسر القاعدة الأساسية لعداد الموت المستمر في الأطلنطي والبحر المتوسط، ولو لحظيًا. كانت فِعْلتُها ضمن أفعالٍ قليلةٍ جعلت للضحايا أسماءً ووجوهًا وأصواتًا، ليكُفُّوا عن الوجود في أذهاننا كأرقامٍ تزيد أو تنقص حسب الطقس، أو الموسم، أو كوارث الجنوب التي تدفع الملايين للهجرة واللجوء والهرب للشمال.

لونا/قمر لم تقصد أن تفعل ما فعلته سالي وغيرها مع بعض ضحايا الإبادة في غزة، بنشر قصصهم وصورهم وكلماتهم كيلا يظلوا مجرد أرقامٍ في عدَّاد الموت. قبل ثلاث سنوات، حدث كل شيء بعفوية ودون قرار. غرق أغلب الشباب الأفارقة الذين حاولوا العبور سباحةً من أراضي المغرب للمستوطنة الإسبانية سبتة. سبح القليلون الناجون لعمق البحر، ليتجاوزوا السياج الحدودي، فالبحر أيضًا به حدود وجدران وأسلاك شائكة، وليسبحوا في طريق العودة للسواحل التابعة رسميًا لإسبانيا.

اندفعت للبحر وللشاطئ فرق الإنقاذ والمتطوعين لمساعدة الناجين، ومحاولة إنقاذ الغرقى في عمق البحر. مَن استطاعوا الوصول للأرض الصلبة كانوا في حالة إعياء كامل. أحدهم كان يبكي وينتفض، لا يستطيع الوقوف على قدميه، لم يصدِّق أنه وصل للحياة مرة أخرى بعدما دخل منطقة الموت، ليتجاوزها، وليخرج منها ناجيًا. احتضنته لونا، المتطوعة في الصليب الأحمر، بطريقة عفوية لتهدِّئ من روعه، فاحتضنها هو مُتمسِّكًا بها تَمسُّكه بالحياة الجديدة. وكأنه، عبْر هذا التلامس، يؤكد لنفسه أنه لا يزال حيًا. بكى كلاهما، ولم ينتبها في لحظتها أن هناك كاميرات تليفزيونية تصورهما.

أذاعت القنوات التلفزيونية هذا المشهد للونا مع هذا الإفريقي الناجي. لتبدأ حملة تنمر وهجوم عليها، واتهامها بأن فعل الاحتضان العفوي ذاك لم يخلُ من رغبة جنسية. وصلت حملة المجموعات اليمينية المتطرفة في قسوتها درجةً أجبرت لونا على إغلاق كل حساباتها على السوشيال ميديا لأكثر من سنتين، واضطرت لتغيير رقمها، لتتجنب رسائل الاتهام والسباب.

أسباب هذه الحالة من السُّعار والتنمر ليست معقدة، ولا تحتاج لتحليل طويل؛ فاليمين الأوروبي يُفضِّل أن يغرق المهاجرون واللاجئون قبل وصولهم للشواطئ، ولا يُنكر هذا التفضيل. بالإضافة إلى أن ما فعلته لونا من الممكن أن يستثير حماس متطوعين جدد، ليشاركوا في عمليات الإنقاذ ومحاولة تقليل أعداد الضحايا. وبالطبع، لا يمكن تجاهل أن كثيرًا من الذكور لا يمكنهم فصل هذا الفعل الإنساني والعفوي عن خيالاتهم الجنسية. ومن بين هؤلاء الذكور عنصريون، سيغضب الكثيرون منهم من مجرد فكرة التقاء جسد الرجل الأسود بجسد المرأة البيضاء. وإن كان بعضهم يقبل العكس؛ أن يُخصِّب الرجل الأبيض المرأة السوداء.

الجانب الآخر الذي أثار الغضب فيما فعلته لونا، هو أن هذا المهاجر توقف في هذه اللحظة عن أن يكون مجرد رقم، عندما أصبح له وجه واضح ومرئي، وجسد له ملامح وطريقة أداء وإيقاع خاص في التواصل مع جسد آخر عبر فعل الاحتضان. له صوت، حتى وإن كان صوت البكاء مرتعشًا. وله، على العكس ممن غرقوا، وثيقة جديدة سيثبت فيها وجهه، دون أن يكون باكيًا.

وجوه لرأس السنة

غلاف كتاب "ليسوا أرقامًا". تأليف سالي سمير. دار مرح لكتب الأطفال (2024)

اليوم، وبعد ساعات، ستبدأ الاحتفالات بنهاية عام وبداية عام جديد. هناك من بيننا من سيذهبون للحفلات التنكرية، النوع المفضل للاحتفال عند قطاعات غير قليلة من أبناء الطبقتين الوسطى والعليا القادرين على الاحتفال، في كل البلدان والثقافات. 

التنكر، استخدام الأقنعة، أو بالأحرى إنكار الهوية الأصلية، يمارسه الأغنياء، بالذات رجال الأعمال الكبار وأصحاب السلطة، خلال بقية العام. هم الأكثر احترافًا لفعل التنكر، لا يريدون أن يتذكر ملامحهم أحد، يتخفون وراء النظارات الشمسية الغامقة، ووراء الزجاج الداكن لعرباتهم الفاخرة والمحصن بعضها. وكأن فعل التخفي هو جزء من ممارسة السلطة، أو أداة ضرورية لاستمرارية امتلاكهم للسلطة أيًا كان شكلها، سياسية أو مالية.

وفي ميكانيزم ممارسة السلطة والقمع والاستغلال، لا بد للضحية أن تظلَّ مُجهَّلة، لا يعرف أحد اسمها أو وجهها أو نبرة صوتها، أو ما قالته قبل أن تُقتل أو تُهزم. أيًا كانت هذه الضحية؛ فقراء من أبناء الدياسبورا الإفريقية في البرتغال في صورة صديقي، أو عند شاطئ النجاة أو الموت الذي كانت به لونا، أو المذبوحين في الخيام عند بحر غزة، أو غيرهم.

هو نفسه ما يشكل أحد جوانب الصراع والتحدي بين الفلسطينيين وآلة القتل المسماة بدولة إسرائيل. لا تريد الدولة أن تُعرَف وجوهُ الفلسطينيين، ولا أن تُحكَى قصصُهم، أو يَعرِف ولو قليلون تاريخهم. أما الفلسطينيون فهم واعون بأن معرفتنا وجوههم وقصصهم وتاريخهم، في جوهره، فعل انتصار على القاتل، ولو في منطقة الهامش. أو ربما أبعد، فبتعميم وجه كل امرأة وطفل ورجل منهم يساهمون/نُساهِم في إضعاف ماكينة القتل، بأن يرتبط بهم، ولو شعوريًا وعاطفيًا، المتلقون البعيدون الذين لم يعرفوا فلسطين أبدًا.

لا ينحصر الأمر على المجال الفلسطيني، بل يمتد ليشمل كل الشعوب والأفراد المقهورين. ففي سوريا على سبيل المثال، استعدنا من جديد، بعد أيام من سقوط نظام بشار، وجه مازن الحمادة، الذي أدان النظام خلال سنوات بوجهه وكلماته من المنفى. لكننا لم نعرف وجوه جلاديه المباشرين، من تلقوا الأمر من مجهولين/مشهورين ليقتلوه تحت التعذيب طوال أربع سنوات، منذ أن عاد من المنفى لسوريا مخدوعًا. عرفنا وجهه من جديد قبل موته وبعده، عرفنا نظرته ودموعه وصوته. تحول مازن حمادة أيقونة، دخل منطقة الخلود الكامل والأبدي، وجه يُخلد حقيقة أن هنا حدثت مأساة كبرى. وجه يدفع بعضنا ليحاولوا ألَّا تتكرر المأساة.

اليوم، في رأس السنة، حيث التنكر لعبة للمرح، للبهجة، لكنها لعبة لا تنفي رغبة الجميع، نعم الجميع، في الخلود، في أن يتذكرنا أحد، عبر الصوت، أو الوجه، أو الكلمات، أو عبر ما نفعله. ألَّا نبقى مجرد أرقام لبشرٍ عبروا من هذا العالم. أن يكون كل منا ذاته بعينها التي عرفها الآخرون، وأن تُخلَّد في ذاكرة ولو شخص واحد فقط، تعرَّف على شخص آخر، ولم ينسَه. يعرف كيف انتهت حياته، وملامح مصيره.

النظر لوجه الضحية، سماع كلماتها، التنبه لنبرة صوتها، سواء كانت في غزة، أو في البحر المتوسط الذي تحوَّل إلى مقبرة لمن حاولوا النجاة والوصول لحياة أفضل، أو في سجن سوري مثل مازن الحمادة، أو وجه الشيخ الذي احتضن حفيدته قائلًا "روح الروح هذي" قبل أن يلحق بها. هؤلاء جميعًا يحق لهم أن يعرف الآخرون وجوههم، أن تثبت في الذهن، ربما تمكنهم هم من أن ينظروا في وجه الموت الذي انتصر عليهم، ليقاوحوه، ليناكفوه؛ نعم هزمتنا، لكننا لم نمت مجهولين.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.