"لم يأت الانتقال في مصر إلى التعددية السياسية، نتيجة لاقتناع النخبة الحاكمة بالديمقراطية كاختيار أساسي ونهائي، بل جرى توظيفها كاستراتيجية لتكريس القدرة على الاستمرار".
عبد الغفار شكر، كتاب الأحزاب السياسية وأزمة التعددية في مصر
ما نشره الباحث والسياسي عبد الغفار شكر في كتابه الصادر قبيل ثورة يناير، يظل صالحًا لدى محاولة تفسير ظهور كيانات سياسية جديدة، وآخرها حزب الجبهة الوطنية. تحت شعار "مصر للجميع"، وبلا برنامج سياسي أو أيديولوجي محدد، أعلن وزير الإسكان السابق عاصم الجزار تدشين حزب الجبهة الوطنية، الذي لا يصنف نفسه موالاة أو معارضة ولا يسعى للحكم.
يخالف الحزب ومؤسسوه السنن المستقرة في النظم السياسية لجدوى الأحزاب وأدوارها في الحياة العامة. يتعجب المتابعون من تصريحات المؤسسين عن حزب بلا هوية لكنه ضرورة، لولا الاحتياج له لما كان، فنستعيد في أذهاننا السؤال الأشهر في تاريخ المسرح، الذي ألقته ماري منيب من شرفتها على عادل خيري في مسرحية إلّا خمسة من إنتاج عام 1963، ونحاول الإجابة على "إنتي جاية تشتغلي إيه؟".
من هم المؤسسون؟
يظل الحزب على علاقة برجل الأعمال المقرب من النظام، رئيس اتحاد القبائل العربية إبراهيم العرجاني، فرغم عدم وجود اسمه في الهيئة التأسيسية، ضمت أسماء المؤسسين المائة نجله عصام.
لم ينكر وكيل المؤسسين عاصم الجزار أمين عام اتحاد القبائل دعم العرجاني ماليًا للحزب، لكنه أوضح في حوار مع الإعلامي عمرو أديب أنه ليس الممول الوحيد "العرجاني واحد من عشرة رجال أعمال يدعمون الحزب بينهم ياسين منصور".
لا يمكن رسم خط سياسي للحزب الذي جمع اليساريين والناصريين والليبراليين وأنصار السُلطة معًا في مشهد لا يشبه سوى الحوار الوطني
تشارك في الهيئة التأسيسية تركيبة متباينة من الشخصيات بين رجال الأعمال الموالين للنظام، مثل محمد أبو العينين وكامل أبو علي، ووزراء سابقين في مقدمتهم عاصم الجزار نفسه إلى جانب سحر نصر (الاستثمار)، والسيد القصير (الزراعة)، فضلًا عن رئيس مجلس النواب السابق علي عبد العال، ومجموعة متنوعة من الكتاب والفنانين منهم يوسف القعيد وعماد الدين حسين ومدحت العدل وسامح الصريطي وأشرف زكي.
لم تخل التركيبة الجديدة من حركة تنقلات بين الأحزاب، فانتقل من معكسر مستقبل وطن النائبة دينا عبد الكريم، ومن الوفد سليمان وهدان وعبد الله المغازي، ومن التيار الناصري فريدة الشوباشي.
لا يمكن إذن رسم خط سياسي يجمع تركيبة أعضاء الهيئة التأسيسية للحزب الذي لم يعلن بعد عن رؤية أو برنامج، فجمع اليساريين والناصريين والليبراليين وأنصار السُلطة معًا في مشهد لا يشبه سوى جلسات الحوار الوطني.
وكأن توصيات الحوار الوطني كانت بحاجة لحزب مؤلف من المشاركين السابقين فيه ومنهم وزراء كانوا في مقاعد صناعة القرار ثم انتقلوا إلى الجانب الآخر لينفذوها
"أنا ليبرالي معارض من أسرة معارضة، وهناك أكثر من شخصية بتأسيسية الحزب محسوبة على اليسار، وحزبنا يتسع للجميع، ومن هنا جاء شعار مصر للجميع" يقول محمد شردي المتحدث الرسمي باسم الحزب لـ المنصة. أما الكاتبة والنائبة فريدة الشوباشي، المحسوبة على التيار الناصري، التي تنضم لحزبٍ للمرة الأولى، فتقول إن "الدافع الوحيد هو الشعور بالمسؤولية والأخطار التي تحيط بالبلاد، بغض النظر عن أفكاره (الحزب) ورؤيته".
لماذا الآن؟
يأتي تأسيس الحزب الذي اختاروا له اسم الجبهة الوطنية قبيل عدة أشهر من انطلاق الانتخابات البرلمانية المنتظر إجراؤها قبل نهاية العام الحالي 2025، ورغم انتشار الاحتفالات بتدشين الحزب وحملات تحرير توكيلات التأسيس في مكاتب الشهر العقاري؛ لم يخرج عنه حتى الآن بيان يوضح البرنامج والرؤية والهدف، ما يعكس مجرد الرغبة في إنشاء كيان سياسي يملأ فراغًا لم تستطع الأحزاب الأخرى ملأه على مدار السنوات الماضية.
بشأن التوقيت أيضًا يتحدث الجزار عن "ما بعد" خروج بعض الوزراء من الحكومة، وكأن الجزار والسيد القصير وعلاء فؤاد الذين خرجوا من التشكيل الوزاري الجديد هم بمثابة مجموعة عمل تنفيذية "بعد الحوار الوطني (كان) فيه مخرجات مفيدة جدًا كان مفروض يكون فيه جهة ما تتلقف هذه المعطيات وتضعها في حيز التنفيذ بأشكال مختلفة، وبرامج وخطط مع مجموعات مهتمة بالشأن العام"، يقول في حواره مع عمرو أديب، يتحدث الجزار وكأن الحزب مؤسسة بحثية أو بيت خبرة/Think Tank يقدم أفكارًا ورؤى للحكومة.
صار المشهد وكأن توصيات الحوار الوطني بحاجة لحزب سياسي مؤلف من بعض المشاركين السابقين في الحوار ووزراء متقاعدين كانوا في مقاعد صناعة القرار خلال صدور التوصيات ثم انتقلوا إلى الجانب الآخر من الملعب ليتلقفوها وينفذوها. يتجاهل الجزار ومن معه أن توصيات الحوار تحتاج فقط لإرادة سياسية تطبقها وتضع خطة تنفيذية لتحقيق مخرجات الحوار الذي دعا له الرئيس نفسه.
روح 30 يونيو
لا يختلف خطاب ضياء رشوان، بصفته عضوًا بهيئة تأسيس الحزب عن حديثه بصفته رئيسًا لمجلس أمناء الحوار الوطني، في كلا المهمتين يتحدث رشوان عن "عودة روح ولُحمة 30 يونيو".
يعتبر رشوان الحزب أول تجلٍ للزخم السياسي الذي أنتجه الحوار الوطني، لدرجة أنه شجعه على العودة للحياة الحزبية مرة أخرى بعد انقطاع دام 15 عامًا.
"فيه حالة ائتلاف، تحالف وطني 30 يونيو جوه الحزب، وإن فيه شيء مؤسسي يضم الفرقاء لغاية الدستور وبعدها خرجت من المساحة"، يقصد المساحة المشتركة التي تجمع المختلفين سياسيًا، وهو ذات الخطاب الذي تبناه خلال الحوار الوطنى داعيًا الأطياف المتنوعة للمشاركة، باستثناء الإخوان المسلمين.
يربط رشوان تأسيس الحزب بمواجهة المصاعب "في وقت الأزمات تُدعى الجبهة الوطنية". في وقت أزمة سابقة استدعت الدولة الجبهة الوطنية بحوار وطني، واليوم يتأسس حزب تحت اسم الجبهة الوطنية على أمل إعادة الاعتبار للسياسة. تتذكر السلطة الجبهة الوطنية فقط في أوقات الأزمات والضغوط السياسية والاقتصادية والاستحقاقات الانتخابية، ثم تقدمها في أشكال متنوعة؛ قائمة انتخابية وطنية، حوار وطني، أو حزب سياسي.
ولكن زخم الحوار الوطني سبق وذهب سدى؛ مرّات بالخروج عن مضمون توصياته وفلسفتها، ومرات أخرى بتجاهل مطالب المشاركين فيه، ولعل استمرار حبس العشرات في قضايا الرأي رغم وعود إنهاء هذا الملف منذ الدعوة للحوار في أبريل/نيسان 2022 أبلغ دليل.
ربما سيحدث استدعاء الحزب وقياداته زخمًا لمواجهة الصعاب قبل الانتخابات البرلمانية، خاصةً مع بعض الوجوه غير المعروفة بالموالاة الفجة للنظام، لكن حال استمرت السياسات نفسها سينتهي الحزب كما انتهى الحوار، وتضطر الدولة للبحث عن بديل.
"نظرًا للإقبال والتزاحم الشديد من المواطنين لعمل توكيلات لحزب الجبهة الوطنية، والتزاحم أمام مكاتب الشهر العقاري، تم فتح جميع مكاتب الشهر العقاري على مستوى الجمهورية لعمل توكيلات بدون حجز مسبق".
النائب وعضو الهيئة التأسيسية لحزب الجبهة الشعبية فايز أبو حرب على فيسبوك
الدولة الداعمة
يتشابك الدعم المادي من رجال الأعمال مع دعم مؤسسات الدولة التي فتحت أبوابها للحزب الوليد دعمًا لتأسيسه، بينما ما زالت العديد من الأحزاب تحت التأسيس تحاول استكمال أوراق تأسيسها منذ سنوات وسط قيود وحصار يحول دون عقدهم لقاءات مباشرة مع المواطنين، أو حتى إتمام جمع التوكيلات.
يتأسس هذا الحزب بسرعة وخفة، وتفتح له الأبواب وتذلل الصعاب للحاق بالانتخابات، بينما في المقابل تتعثر عدة أحزاب بسبب التضييقات و"الأكتاف القانونية"، ومن بينها حزب العيش والحرية، اليساري، الذي يحاول إتمام التأسيس والإشهار منذ سنوات وسط تعنت مكاتب الشهر العقاري، التي امتنع بعضها عن تحرير أي توكيلات بناء على خطابات من قطاع الأمن الوطني.
أما الليبراليون، فما إن أعلن عدد منهم عن مبادرات لتأسيس أحزاب جديدة تفاؤلًا بـ"انفراجة" متخيلة بعد الحوار الوطني، حتى تعثرت محاولاتهم بسبب عرقلة جمع التوكيلات وعدم منح الأحزاب والنشطاء مساحة للتحرك في الشارع، بما فيها من تحديد مكاتب محددة في الشهر العقاري لتحرير التوكيلات الحزبية.
دفع هذا التعثر حزب كتلة الحوار، الذي قاده البرلماني السابق باسل عادل، للانضمام بزملائه ووكلاء المؤسسين والأعضاء لحزب الوعي الذي تأسس في 2011 وتوقف عن التعاطي مع المشهد السياسي منذ سنوات. فإعادة هيكلة حزب مشهر بالفعل والتوافق حول إعادة تقديمه للجماهير بشكل جديد أيسر وأسرع من رحلة بائسة محكوم عليها بالفشل بعد إنهاك، لمحاولة تحرير توكيلات تأسيس حزب جديد.
خريطة برلمان 2025
اعتدنا قبل كل انتخابات برلمانية أن نشهد بدء مشاورات تشكيل قائمة محسوبة على الدولة تسعى لجمع أكبر عدد ممكن من الموالاة والمعارضة، كل حسب نسبته وقوته وثقل الجهة التي تدعمه.
في انتخابات 2015 كانت قائمة ائتلاف دعم مصر التي شكلها اللواء الراحل سامح سيف اليزل، وفي 2020 كانت قائمة من أجل مصر التي شكلها حزب مستقبل وطن. والآن ربما يسعى حزب الجبهة الوطنية لتحالف واسع بديلًا عن مستقبل وطن، الذي يواجه بالرفض داخل الأوساط السياسية بسبب أداء نوابه وقياداته، فلم يعد من المناسب شكلًا أن تجتمع معه المعارضة في قائمة واحدة.
ظهر مستقبل وطن في الانتخابات والاستفتاءات راعيًا لحشد المواطنين من خلال كراتين الزيت والسكر أحيانًا، وماراثون احتفالات وزي موحد للشباب والشابات أحيانًا أخرى، كل منطقة واحتياجاتها.
رغم عدم وجود برنامج للحزب، أوضح بيانه التأسيسي أنه لا يسعى لتحقيق الأغلبية البرلمانية، إنما يخوض الانتخابات بأكبر تحالف سياسي مع الأحزاب القائمة. ووفقًا لتصريحات متحدثه الرسمي لـ المنصة، فالتحالف متاح لجميع القوى من معارضة وموالاة "أي فصيل يمكنه أن ينخرط في التحالف باستثناء جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية". ويتفق الأديب يوسف القعيد مع شردي، قائلًا لـ المنصة "حزب الجبهة يستهدف مواجهة جماعة الإخوان".
اليوم، بعد الحوار الوطني وانتخابات رئاسية شاركت المعارضة فيها شكليًا، أيضًا بدون جماعة الإخوان، ربما وجد مهندس المشهد الوقت غير ملائم لمستقبل وطن وأشباهه، وأنه يحتاج بديلًا أفضل شكلًا ومضمونًا. من حيث الشكل، لن يستخدم قيادات الجبهة الوطنية الزيت والسكر علنًا لحشد الناخبين كما يزيد تنوع الألوان في الهيئة التأسيسية من قدرة أعضاء الحزب على تبني خطاب إعلامي أكثر توازنًا بعد سنوات من خطابات التأييد الفجة لحزب مستقبل وطن وأشباهه.
حزب الجبهة الوطنية هو حزب الضرورة، كما يقدمه أطرافه. ورجوعًا إلى تشخيص عبد الغفار شكر، لولا إدراك السلطة لوجود أزمة واحتياجها لمواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية، لما سعت لتأسيس أحزاب من بابه.
لكن ما لا تدركه الأطراف التي ما زالت تتقاذف الكرة ساعيةً لحصد نصيب يحفظ لها قوتها في البرلمان المقبل، أنها ستنتهي بحزب يصطف بجانب مستقبل وطن وحماة الوطن وغيرهما، وسيبقى الفراغ السياسي قائمًا طالما اتبعت السلطة نفس الأساليب وكررت ذات المحاولات. حتى وإن تجدد الخطاب وتغيرت الوجوه.