تصميم: يوسف أيمن - المنصة

المسؤولية الطبية والأعراض المرَضية لغياب السياسة

مطلوب استراحة لالتقاط الأنفاس وتوسيع الحوار بحثًا عن فلسفة متكاملة للقانون بهامش فشل محدود

منشور الاثنين 6 يناير 2025

لا يستفيد أحدٌ على الإطلاق من الاحتقان الذي سببه قرار تأجيل انعقاد الجمعية العمومية الطارئة لنقابة الأطباء بشأن مشروع قانون المسؤولية الطبية، التي كانت مقررةً يوم الجمعة الماضي 3 يناير/كانون الثاني. وبدلًا من أن ينال نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي تقديرًا يستحقه بعد مشاركته في الاجتماعات المكوكية بلجنة الصحة بمجلس النواب، تعرَّض الرجل لهجوم قاسٍ واتُّهم بالتفريط في حقوق الأطباء، على الرغم من التقدم اللافت في الصياغات والأحكام.

أصبحت اليد الطولى في هذا المشهد البائس لطرفين لا ثالث لهما؛ الأول فريق من داخل السلطة غابت عنه السياسة، يرى إلغاء الجمعية العمومية للأطباء ضرورة قصوى. استشعرنا لمساته ثقيلة الوطأة منذ مطالبة بعض النواب بإلغاء الجمعية وضغطهم على النقيب الذي رفض وصمد في البداية.

انحصر النقاش بين الغُلاة من الجانبين وهو  عَرَض مرضيٌّ لغياب السياسة

وكأن التعبير عن الرأي المخالف يجرح الدولة أو ينتقص منها. رؤية ضيقة لا تليق بمصر الكبيرة. والإشارة هنا واجبة إلى ما قاله نائب رئيس الوزراء ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار خلال اجتماعات البرلمان "الدولة لا تتأثر بجمعية عمومية أو بالسوشيال ميديا". والحق أن أي نقاش حر على أي منبر هو في صميم صالح الدولة لا ضدها.

أما الطرف الآخر وهو السائد على السوشيال ميديا فهو معارض من قلب المجتمع الطبي، يرفض الحلول الوسط ويتمسك بأفكار تستدعي المحددات الدستورية إعادة تقييمها. وبعد نجاح الضغوط في تأجيل الجمعية العمومية، زادت شعبية ذلك الفريق بغض النظر عن أي تقدم تحقق خلال اجتماعات البرلمان.

حضرت إرادة إسكات الأصوات، بتصوُّرات خاطئة عن المجتمع الطبي، تراهن على فتوره بمرور الوقت، فانحصر النقاش بين الغُلاة من الجانبين. إنها أعراض مَرضِيَّة لغياب السياسة، تخنق الأجواء بمعارك صفرية خاسرة تنتهي دومًا بهزيمة المصلحة العامة.

اللافت أن النقيب حذّر النواب صراحةً من مغبّة استمرار الضغط لإلغاء الجمعية، قائلًا بعبارات سديدة "إذا أنتج النقاش مخرجات جيدة فنحن قادرون على أن تنعقد الجمعية لترحب بتلك المخرجات وتؤيدها، بدلًا من أن تكون مجالًا للمزايدة والرفض، لا تفرضوا شيئًا على نقابة الأطباء، فنحن جزء من مؤسسات الدولة".

ولا يساورني شكٌ في أنه قضى ليلة صعبة بعد انتهاء اجتماعات البرلمان، محاولًا إنقاذ التوافق وانعقاد الجمعية في موعدها، وعبّر هو السبت الماضي عن ذلك في رسالة لزملائه تحمل في طيّاتها مؤشرات خطيرة، ولكن "لا يكلّف الله نفسًا إلَّا وسعها".

تغيب السياسة فيزيد الاحتقان

صورة جماعية لنواب لجنة الصحة وممثلي الحكومة ونقيب الأطباء بعد اجتماع 31 ديسمبر 2024 والتوافق على بعض تعديلات قانون المسؤولية الطبية

والآن نحن أمام ردّة خطيرة؛ تصاعدت الأصوات المعارضة للمشروع، وانتشرت التهديدات باعتزال المهنة، وانقسم مجلس النقابة على نفسه، وتاهت تفاصيل المستجدات الإيجابية وتلاشى تأثيرها ليزداد البون اتساعًا بين الحكومة والنواب، ومقدمي الخدمة الطبية، وفي الخلفية نلمح ترقب القضاة والمحامين لما ستسفر عنه الأحداث باعتبارهم شركاء العدالة لتطبيق القانون الجديد.

وعلى المستوى السياسي تسببت استجابة الحكومة لبعض ملحوظات الأطباء والانخراط في عمل مشترك حقيقي في رواج تصور متفائل بإمكانية فتح الباب لتفاهم جاد ومنفتح حول بعض مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية المنظور حاليًا في مجلس النواب والأخذ بمقترحات المعارضة، وبإمكانية التعامل الإيجابي مع مقترحات تشريعية أخرى بما في ذلك توصيات المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين بشأن إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية، وحرية تداول المعلومات، ومشروع قانون العمل الجديد، إلا أن تأجيل "عمومية الأطباء" مثَّل رسالة سلبية صرفتنا عن تلك الآمال.

والمعضلة مع قرب نظر المشروع في الجلسة العامة، أن يصدر قانون المسؤولية الطبية في أجواء مسمومة تفتقر إلى التراضي المجتمعي المطلوب لتعزيز ثقة الأطباء والتمريض في أنفسهم وممارستهم وضمان سلامة المريض واستقرار عمل المنشآت الطبية، وإحكام العمل بمنظومة الرقابة والمساءلة بصورة تحول دون إعاقتها أو أن تصبح هي بذاتها عائقًا أمام حصول كل طرف على حقه.

بين ضبابية الدراسة وهوامش الفشل

إن المعارك الزاعقة في السياسات التشريعية حول التفاصيل الصغيرة تنسينا مرارًا ضرورة مراجعة المبادئ والأهداف والحدود الدستورية والتجارب الواقعية، وصولًا إلى فلسفة متكاملة لا يُشترط أن تكون مشابهة لدولة أخرى، ولكن يجب أن تكون هوامش فشلها محدودة للغاية.

والمشادات المتطرفة حول مشروع قانون المسؤولية الطبية لا تنبئ بأنه سيحقق أهدافه، حتى مع الاجتهاد "المحمود" في تعديل صياغة هنا أو تعريف هناك.

فثمّة كثير من المسائل القضائية والإجرائية غير واضحة المعالم إذا وُضعت في سياق أوسع من القوانين الأخرى ومبادئ المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض، لا سيما ما يتعلق بالاستدلال والخبرة الفنية التخصصية، وتحديد شكل ودرجة المسؤولية التقصيرية والتعاقدية والمهنية، وحالات الفصل أو الارتباط بين مقدم الخدمة والمنشأة التي يعمل بها ويُعالج المريض، وحدود جسامة الخطأ وصوره المختلفة انتهاءً بالخروج من مظلة الحماية التي يبسطها القانون، وحتى التأمينات والتعويضات.

يجب ألّا تتحول المسؤولية الطبية إلى مجال لإساءة حق التقاضي والملاحقة القضائية

يتطلب تحقيق القانون هدفه أن يهدأ الجميع ويلتقطوا الأنفاس لنرسم في المبتدأ خارطة طريق واضحة. لدينا مشروع قانون، بالصيغة التي خرجت من لجنة الصحة وليس قبل ذلك، وأمامنا عوامل ومسائل دستورية وقضائية وطبية وتجارب عالمية، فما المانع من تخصيص شهر لدراستها كافة في اجتماعات موسعة تنظمها النقابة أو وزارة الصحة؟ تشمل أكبر عدد من أصحاب المصلحة والخبراء في المجالات المرتبطة، لربما توصلنا إلى صيغة متوازنة ومستدامة، على ضوء النقاط الآتية:

التوقيت

يجب على الحكومة مصارحة الرأي العام بالدافع وراء ظهور مشروع القانون الآن، بعد أكثر من عشرين عامًا من المطالبة المستمرة به للارتقاء بالخدمة الصحية وتوحيد الإطار الحاكم للمسؤولية المدنية والجنائية، وما إذا كان الأمر مرتبطًا بدخول مستثمرين جدد أجانب إلى القطاع الصحي، لا سيما بنظام التزام المنشآت الصحية الجديد، ومدى انعكاس ذلك على المشروع.

المحددات الدستورية

ليس صحيحًا ما جاء في تقرير مجلس الشيوخ من أن النصوص الدستورية الحاكمة للمشروع تقتصر على المادة 8 الخاصة بالعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة والمادة 18 الخاصة بالحق في الصحة والرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، فهناك المادة 95 التي تمنع توقيع عقوبة إلا بحكم قضائي، والمادة 97 التي تكفل حق التقاضي للكافة، والمادتان 188 و189 اللتان تنظمان اختصاص القضاء والنيابة العامة، وكلها لها تأثير مباشر على منظومة المسؤولية الطبية.

وهناك قصور واضح في تبصرة الأطباء والرأي العام بأن تلك المبادئ الدستورية لها ظل مترامي الأطراف على المشروع، بالأخص منع الإلزامية المطلقة للرأي الفني الصادر عن اللجنة العليا للمسؤولية الطبية التابعة لرئيس الوزراء، وحجز الكلمة الأخيرة للمحكمة بحكم قضائي. وبعض تلك المبادئ ضروري لاستقلال القضاء وفاعليته، ولا نظير له في عدد من الدول التي يطالب كثيرون بالاقتداء بها.

توحيد القواعد

هناك الكثير من القوانين المرتبطة بنصوص المشروع من المدني والعقوبات والإجراءات الجنائية إلى التأمين الموحد الصادر حديثًا. علينا إدراك أهمية توحيد التشريع الذي يسري على كل حالة أو إجراء بما لا يسمح بالازدواج أو الاختيار بين نظامين.

فعندما نتحدث عن منع الحبس الاحتياطي في الخطأ الطبي يكون ذلك بنص واضح غير ملتبس وتفعيل بدائل مناسبة في حالة الجسامة. وليعاد النظر فيما إذا كان هذا القانون هو المكان المناسب لسن العقوبات، أم أن الأصلح تخصيصه لسبل الحماية والسلامة والمساءلة وترك العقوبات لقانونها العام، كما في ألمانيا مثلًا، بالتالي إخراج حالات الخطأ الجسيم وتصنيفها بتعريفات أوضح وأكثر تفصيلًا.

نقيب الأطباء أسامة عبد الحي، 2 يناير 2024

نظرة أعمق للخبرة الفنية

بعد التعديلات الأخيرة أصبحت اللجنة العليا هي الخبير الفني لجهات التحقيق أو المحاكمة في القضايا، ولا ينص المشروع على الاستعانة بخبرات أخرى. وبالنظر إلى دواعي العدالة؛ هل هذا يعني أن القاضي لا يملك الاستدلال بأي تقرير آخر أو شهادة أخرى قد يكون لها أثر في نظر الدعوى؟ وهل يترتب على إهمال التقارير الأخرى بطلان الحكم؟ ألا يمكن أن تكون التقارير الأخرى وسيلة لتغيير عقيدة القاضي لصالح المريض أو مقدم الخدمة؟ أم هل يمكن لهذا النص تقييد الأحكام العامة للاستعانة بالخبرة إذا أضيفت ضوابطُ معينةٌ؟ مسائل كثيرة تثور في هذا الموضوع ويجب أن تهدف الحلول إلى تحقيق العدالة لا المواءمة الظاهرية.

مراجعة مسارات المساءلة والتقاضي

 كقاعدة عامة يجب ألّا تتحول المسؤولية الطبية إلى مجال لإساءة حق التقاضي والملاحقة القضائية للأطباء والممرضين باعتبارهم ثروة بشرية يجب الحفاظ عليها وعدم التسبب في إحجامهم عن ممارسة المهنة.

والمشروع يرسم طريقًا نموذجيًا من خلال اللجوء أولًا إلى اللجنة العليا واللجان الفرعية لتتولى فحص الشكاوى والتحقيق والمساءلة واقتراح التسوية الودية واعتمادها وإبلاغ النقابة وجهات التحقيق حال توافر شبهة المخالفة الجنائية أو التأديبية. ولكن هذا لا ينال من إمكانية اللجوء مباشرة للقضاء.

هذه النقطة تتطلب المراجعة استثناءً من القواعد العامة، وهي مهمة صعبة ولكن ربما يكون حلها وضع مهلة زمنية قصيرة تمكن اللجنة العليا من مواكبة الدعوى المرفوعة مباشرة من البداية لمساعدة جهة التحقيق، أو وضع شروط صارمة وضيّقة للشكوى الجنائية أو الإدارية المباشرة لجهات التحقيق.

وفي المقابل يجب تدعيم المسار الذي يرسمه مشروع القانون ابتداءً من الشكوى وحتى التسوية أو تحريك الدعوى الجنائية أو التأديبية، بمواعيد وضوابط أكثر جديّة، مما يجعله في نظر ذوي الشأن المسار الأكثر فاعلية للمساءلة وتحقيق العدالة. وربما يتطلب الأمر إعادة نظر في تشكيل اللجنة بزيادة تمثيل مقدمي الخدمة لتكون أكثر استقلالية وتخصصًا.

كفاءة المنشآت ضمانة لحماية الطرفين

من الغريب ألّا يُلزِم المشروع جميع المنشآت الطبية العامة والخاصة بتوفير المستلزمات والأجهزة والأدوية والمستحضرات الكافية لتقديم الخدمة الطبية على الوجه الأمثل، وبالامتناع عن أي إجراء طبي لا تملك المنشأة الإمكانات الكافية لتقديمه، عدا الحالات الطارئة ولحين استقرارها. هذا ضمانٌ لتوفير أفضل ظروف العمل لمقدمي الخدمة وحماية لهم من أي مسؤولية محتملة بسبب قصور الإمكانات، ويكفل أيضًا سلامة المريض ويخفف الأعباء عن كاهل ذويه.

التجارب الدولية ليست نصوصًا فقط

اعتاد كثيرون الرجوع إلى مدونات وقوانين تنظيم المسؤولية الطبية في دول مختلفة، فيجدونها خالية من نصوص عقابية لينشروا عنها تصورات قاصرة. والحقيقة أن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا تصدر بها أحكام كثيرة بحبس الأطباء، لسنوات تزيد عمّا يقترحه المشروع، بسبب الأخطاء الطبية الفنية الجسيمة المتعلقة بالتشخيص الخاطئ والخروج عن القواعد المعتادة ووصف الأدوية بشكل خاطئ، وليس فقط التواني عن العلاج وإساءة التصرف واستغلال المرضى وإفشاء الأسرار.

وفي العديد من تلك القضايا كانت التقارير الفنية تؤكد للمحكمة المختصة أن الطبيب غير كفء أو غير مقبول الأداء أو قصَّر في اتخاذ الإجراءات اللازمة لسلامة المريض، وصُنِّفت العديد منها جرائم قتل غير عمدي.

ويثير ذلك كله جدلًا واسعًا متجددًا في أفضل الأنظمة الصحية حول تعاطي نظام العدالة مع الأخطاء الطبية بأنواعها، وما قد ينتهي بإدانة الأطباء ظلمًا أو بسبب استقراء خاطئ أو مبالغ فيه من القاضي أو المحلفين، وشهدت بريطانيا في عام 2016 حملة تضامن واسعة مع جراح كبير أدين وقضى في السجن عامًا وثلاثة أشهر قبل أن يُبرّأ، وكان جوهر الأزمة كيفية تحديد درجة خطورة الإهمال ومتى يمكن اعتباره جريمة.

إن فحص تلك الحالات الواقعية ومسبباتها ومآلاتها، بعيدًا عن سرد النصوص الجافة، مهم لمحاولة تصور ما قد نواجهه في ظل قوانين مستقرة ويراها البعض مثالية لكنها لم تحسم كل حالات الشُّبهة، فما بالنا بقانون لم يحظ بالوقت الكافي للدراسة؟!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.