دائرة المعارف البريطانية
جنود إسرائيليون في غزة خلال حرب 1967

14 شهرًا على النكبة الجديدة.. استراتيجيات الماضي تغير كل شيء للأبد

منشور الثلاثاء 24 ديسمبر 2024

في السابع من أكتوبر 2023 بعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس، الذي بدأ بقصف صاروخي وتبعته عمليات تسلل إلى منطقة غلاف غزة، اهتزت صورة إسرائيل كقوة عسكرية "لا تقهر" في مخيلة العرب، وإن كانت الصدمة أشد داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته.

عبْر تاريخ الصراع الممتد، ظلت صورة إسرائيل كقوة رادعة وحصن منيع مرتبطة بشكل وثيق بضمان بقائها، لذا لم يكن مفاجئًا أن تبذل إسرائيل جهودًا وحشية لإعادة بناء هذه الصورة، مستلهمة استراتيجيتها العسكرية والسياسية من انتصاراتها السابقة، خاصة حرب يونيو/حزيران 1967 التي تُعتبر علامة فارقة في تاريخها.

في أعقاب حرب يونيو 1967، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول إن "التهديد بتدمير إسرائيل منذ تأسيسها، والذي كان سينفذ، قد أزيل. وسوف لن نسمح لمثل هذا أن يتجدد" [1].

لم تحقق إسرائيل من تلك الحرب توسعًا جغرافيًا فحسب، باحتلال أراض عربية لا تزال تحت سيطرتها حتى الآن، لكنها أرست قواعد نفوذ سياسي واستراتيجي شكّلت سياساتها ومواقف القوى العالمية تجاهها حتى الآن.

تأمل الماضي ومقاربته بالوقع الحالي يؤكد أننا أمام مشهد أكثر خطورة ويحمل تحولًا جذريًا قد تفوق تأثيراته ما خلفته نكبة 1948 وحرب 1967.

شظايا من الماضي

تعلمت إسرائيل الدرس بعد العدوان الثلاثي حينما تحالفت مع فرنسا وبريطانيا، الدولتين الاستعماريتين اللتين كانتا تستميتان في الدفاع عن مستعمراتهما في خضم عالم يتغير، ولم تحصل على دعم مباشر من أحد قطبي النظام العالمي الجديد، فحرصت إبان حرب 1967، على تركيز جهودها الدبلوماسية والدعائية للحصول على ذلك الدعم من الولايات المتحدة.

المكاسب الاستراتيجية والسياسية بعيدة المدى لحرب 1967 تجعلها الأكثر تأثيرًا

كان محور الخطة الدعائية الإسرائيلية هو الهجوم على الاتحاد السوفيتي باعتباره مساندًا للدول العربية بالسلاح، كما صورت نفسها ضحية للعدوان العربي المحتمل، فسيطرت في الإعلام الغربي صورة إسرائيل الديمقراطية الصغيرة المحاصرة من جميع الجهات، وركزت في خطابها على استعادة أهوال النازية، وارتدى المتظاهرون أمام قنصليات الاتحاد السوفيتي الزي الموحد للمعتقلين في معسكرات النازية فحصلت على تعاطف الجمهور وصناع القرار الأمريكيين.

نتنياهو أثناء تأدية الخدمة العسكرية في عام 1967

بتخطيط متقن، صُور الهجوم المفاجئ الذي شنته القوات الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو، والذي دمر القوات الجوية المصرية، باعتباره خطوة ضرورية لاستباق الخطر الذي يهدد وجود إسرائيل. استخدم الاحتلال فزاعة الخطر الوجودي لتبرير الاستيلاء على الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، فأسفرت الحرب عن تهجير ما يقدر بـثلاثمائة ألف فلسطيني، ووضع أكثر من مليون آخرين في الأراضي المحتلة تحت الحكم الإسرائيلي.

كانت مكتسبات هذه الحرب بالنسبة لإسرائيل أكبر من أي حرب خاضتها في تاريخها،

فبالرغم من أن حرب 1948  أسفرت عن استيلاء إسرائيل على أراضٍ أكثر مما كان مخططًا له طبقًا لقرار تقسيم فلسطين رقم 181، ولم تتراجع عنها مطلقًا بعد ذلك، فإن مكاسبها السياسية والاستراتيجية بعيدة الأمد من حرب عام 1967 تجعلها ذات مكانة مختلفة.

اتبعت إسرائيل نفس التكتيكات في سياساتها وعملياتها العسكرية بعد ذلك، إلا أنها تظهر بشكل أكثر فجاجة في حربها الحالية على غزة. كان بإمكان إسرائيل وضع عملية طوفان الأقصى في إطار العمل الإرهابي، كما اعتادت توصيف عمليات المقاومة، لكنها اختارت تصنيفه حربًا تهدد وجودها، بل وصفه نتنياهو بأنه أخطر حدث في تاريخ الشعب اليهودي منذ الهولوكوست.

أعادت تسويق فكرة التهديد الوجودي لها، وجاءت الحرب في صورة أكثر عنفًا وجنونًا مما عرفه تاريخ الصراع، تحت ذريعة تدمير قدرات الأعداء القتالية للأبد.

من يوقف الحروب؟

لم يتوقف أي نزاع مسلح في التاريخ نتيجة تعاطف شعوب العالم مع صراخ المدنيين العزل، أو رعبًا من مشاهد الأشلاء أو القبور الجماعية، أو بكاء على مآل الإنسانية. لا تتوقف الحروب إلا بوجود من يوقفها، سواء المنتصرون، أو صاحب المصلحة من وقفها ولديه القوة العسكرية أو الاقتصادية اللازمة لذلك. إنه عالم واقعية توماس هوبز وليس السلام الدائم لكانط.

حصلت إسرائيل على مكاسب سياسية كارثية على العرب غيرت الخارطة حتى اليوم

أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كان قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار وانسحاب المعتدين كأن لم يكن، مثل القرارات الأممية التي لا تدفع القوى العظمى لتنفيذها. لم تتوقف الحرب إلا بتهديد مباشر من الاتحاد السوفيتي بالتدخل العسكري، ثم الكثير من المساعي الدبلوماسية من الولايات المتحدة التي كانت حريصة على عدم اختلال ميزان القوى في المنطقة، أدت هذه الضغوط لانسحاب إسرائيل من سيناء بعد خمسة أشهر من الاحتلال والعديد من المجازر.

كان الوضع مغايرًا في 1967، قبلت إسرائيل تنفيذ قرار مجلس الأمن الفوري بوقف إطلاق النار، لأنها قد حققت أكثر مما خططت له، وألحقت خسائر لا حصر لها بالعرب. تحرك بعدها الدعم الأمريكي في صورة أقوى وأكثر تأثيرًا مما كانت تحلم به إسرائيل. فبينما تزعّم الاتحاد السوفيتي المطالبات بجلسات تالية لمجلس الأمن للتوصل لقرار يلزم إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة إلى حدود هدنة 1949، ظلت الولايات المتحدة على موقفها الداعم لوقف إطلاق نار دائم فقط، ومن ثم تبدأ مفاوضات استعادة السلام.

وبعد خمسة أشهر من توقف الحرب واستمرار المفاوضات، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 242، متبنيًا وجهة النظر الأمريكية، وربط انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعقد سلام دائم. وأصبح مفهوم "الأرض مقابل السلام" أساسًا لأي نقاش حول تداعيات اليوم التالي لحرب 1967، وإطارًا لاتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو فيما بعد.

حصلت إسرائيل على مكاسب استراتيجية كارثية على العرب، فتغيرت خارطة الشرق الأوسط حتى اليوم، وترسخت عقيدة القوة لديها كطريقة أكيدة للحصول على الأمن، بغطاء دولي وتراخٍ أممي.

تغير كل شيء للأبد

أما في حرب الإبادة المستمرة، فقد قتلت إسرائيل أكثر من 45 ألفًا من الفلسطينيين في أقل التقديرات، و186 ألفًا في تقديرات أخرى، بالإضافة إلى100 ألف جريح، و7 آلاف على الأقل من المفقودين، وتسببت في تهجير مليون و900 ألف آخرين داخل غزة من أصل 2 مليون ومائتي ألف نسمة. كما تعدت نسبة الأطفال المبتورة أطرافهم في فلسطين مثيلتها في أي بلد في العالم مقارنة بعدد السكان.

تقارن أهوال حرب الإبادة الحالية عادة بنكبة 1948 لكن الفلسطينيين حينها، كان لديهم إمكانية اللجوء إلى الدول المجاورة أو الضفة الغربية وغزة والنجاة بحياتهم، بالرغم من تهجير ما يقرب من 750 ألف فلسطيني، ومقتل ما يقدر بـ 15 ألف آخرين.

نازحون قسريًا في غزة يعانون من شح الطعام، 29 فبراير 2024

لكن النكبة اليوم مضاعفة، فالفلسطينيون غير مسموح لهم إلا بالنزوح المتكرر إلى ما لا نهاية داخل حدود غزة، فلا مهرب ولا ملجأ، وسط حصار كامل ومجاعة وانتشار الأوبئة وانعدام العلاج، إذ يعيش الفلسطينيون جحيمًا مستمرًا لما يزد على العام.

على الصعيد الدولي الوضع الراهن حتمًا أسوأ من حرب عام 1967، فحتى الآن فشل مجلس الأمن في مجرد تمرير قرار بوقف فوري لإطلاق النار، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض طوال العام الماضي لمنع صدوره.

لن يتوقف إطلاق النار إلا بعد حسابات استراتيجية دقيقة تضمن أمن إسرائيل المزعوم على المدى الطويل، وهو ما يتضح الآن، لم ينته الأمر عند فلسطين، فكل ما يجرى جزء من خطة أكبر لإعادة تشكيل المنطقة.

على الجبهة الشمالية، وبعد وقف إطلاق النار، وتحييد حزب الله نهائيًا عن مسار الحرب في غزة، تحاول إسرائيل فرض منطقة عازلة خالية من السكان في الجنوب اللبناني، بعد إرسال تحذيرات لسكان عدة بلدات حدودية بعدم العودة لمنازلهم، كما دمرت قرى حدودية أثناء توغلها.

بنفس النمط، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، توغلت القوات الإسرائيلية في المنطقة العازلة في الجولان واحتلتها، وسط تقارير عن توغلها في العمق السوري، وأعلن نتنياهو الجولان أراضي إسرائيلية للأبد.

وكما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل في القرار 242 الشهير، ورفضت أي مفاوضات حول انسحاب إسرائيلي غير مشروط، فستفعل هذه المرة أيضًا، ومن غير المرجح أن تتراجع إسرائيل عن مكتسباتها في هذه الحرب وما تلاها.

أي أفق لوقف الحرب؟

على الرغم من صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية مؤخرًا بتوقيف نتنياهو ووزير دفاعه، فمن الواضح أن هناك ترددًا دوليًا حتى في القبول بمشروعية القرار، مما يعطي غطاء ضمنيًا لاستمرار الإبادة. على الأرجح سيكون مصير القرار على غرار غيره من القرارات الدولية التي لا تحصل على دعم أمريكي، فالولايات المتحدة ليست عضوًا في نظام روما الأساسي المؤسس للمحكمة، وغير ملزمة بقراراتها.

تخلو البيانات الرسمية من سيناريو اليوم التالي بينما بدأ تنفيذ خطة الجنرالات على الأرض

في كل الأحوال لن تؤثر محاكمة نتنياهو من عدمه على ما فرضه بالقوة على أرض الواقع في المنطقة، خاصةً أن لا ضغط سياسي خارجي حقيقي سيقع على إسرائيل دون موافقة الولايات المتحدة، وهي السياسة الممتدة منذ حرب 1967، باستثناءات قليلة على مدار تعاقب الإدارات الأمريكية.

أما الإدارة الأمريكية المقبلة فنستطيع توقع نواياها تجاه فلسطين، فبخلاف تهديد ترامب بضرورة التوصل لاتفاق في غزة قبل توليه للرئاسة في 20 يناير/كانون الثاني المقبل، كانت أولويات إدارته الماضية للقضية الفلسطينية تتمثل في خطتها الخاصة للسلام، بما تتضمنه من تعريف غامض لحل الدولتين، وتختلف في بنودها عن مقتضيات القرار 242.

صورة لتجميع المواطنين قبل نزوحهم من جباليا، 21 أكتوبر 2024

يرتبط وقف إطلاق النار في غزة هذه المرة بالتوافق على سيناريو اليوم التالي، وهو الأمر الذي تتعمد إسرائيل تركه ضبابيًا في بياناتها الرسمية، بينما على الأرض بدأت تنفيذ خطة الجنرالات، بعد إنشاء محور نتساريم، وحصار نصف غزة الشمالي ومحاولة إفراغه من سكانه.

أما المفاوضات التي تخوضها حماس مع إسرائيل عن طريق الوسطاء، تبدو كأنها عالقة في دائرة مفرغة، رغم تراجع حماس مؤخرًا عن مطلبها بانسحاب إسرائيلي غير مشروط ووقف إطلاق دائم للنار، مقابل خطة ذات مراحل ثلاث لا تضمن بشكل مؤكد نهاية الحرب، ولا تصورًا لليوم التالي.

الواقع الجديد

يجعل الواقع الجديد حل الدولتين طبقًا للقرار 242، ومسألة حدود ما قبل 1967 يبدوان كأنهما من الماضي البعيد، مع تصاعد الخسارة البشرية والمادية الهائلة، وغياب أفق إيجاد حل مستدام لمستقبل فلسطين.

تعلو أحيانًا بعض الأصوات من داخل غزة تطالب بإلقاء حماس للسلاح دون ربط ذلك بمطالب أخرى، فيما لا تمانع أصوات غيرها في استبعاد حماس من المشهد السياسي برمته، بالإضافة إلى صراخ الآلاف ممن لا تهمهم هذه التفاصيل في ظل المعاناة المستحيلة التي يعيشونها، مطالبين فقط بوقف الحرب والعيش في سلام.

مع كل ما جرى، تبقى الإرادة العامة للفلسطينيين وحقهم في اختيار من يمثلهم بعد أربعة عشر شهرًا من حرب الإبادة، ومرور نحو 20 عامًا على آخر انتخابات تشريعية، مجهولة، وغائبة عن المشهد.

في ظل هذا الواقع المظلم، الذي لا يزال يصر البعض على تسميته انتصارًا، توجد مُطالبات للدول العربية بالتدخل لمقاومة الاحتلال، بينما يطالب آخرون بإنفاذ القانون الدولي لإنقاذ البشر وإيقاف المجازر.

لكن ما يعرفه الجميع ويرفضون الاعتراف به، أن التحرر من الاحتلال لن يكون أبدًا بعقد الآمال على القانون الدولي، أو الأنظمة العربية ولا القيادات الفلسطينية الحالية، أو تمحور الشعوب العربية حول الفصائل المسلحة في مستنقع الحروب بالوكالة للتخلص من الاحتلال أو من الأنظمة العربية السلطوية. مفتاح كل القضايا واحد، ويبدأ من النظر للداخل.


[1] ورد الاقتباس في كتاب ونستون تشرشل، حرب الأيام الستة (1967).

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.