لم تتوقع نيّرة صلاح الزغبي، التي لم تكمل عامها الثامن عشر، أن تدفع حياتها ثمنًا لـ"غدر الأصدقاء"، وفضّلت الانتحار على العيش مُهدَّدة.
أثارت الواقعة الرأي العام، في القضية رقم 675 لسنة 2024 جنايات أول العريش، بعد تهديدها وابتزازها من زميليها شروق وطه في جامعة العريش بمحافظة شمال سيناء؛ ما دفعها للانتحار بحسب مرافعة النيابة العامة.
نيرة ليست القاصر الوحيدة التي تعرضت لابتزاز إلكتروني، سبقتها العديدات أشهرهن بسنت خالد البالغة من العمر 17 عامًا، وهايدي شحتة التي لم تتجاوز الـ 14 عامًا، انتحرتا في ديسمبر/كانون الأول 2021، ويناير/كانون الثاني 2022، بعد تعرضهما لوقائع مماثلة.
وحسب محمد اليماني، مؤسس مبادرة قاوم لمحاربة الابتزاز في مصر، فإن القاصرات يُمثّلن في الفترة الأخيرة عددًا كبيرًا من الضحايا، وهناك ما لا يقل عن خمس حالات لقاصرات شهريًا تتعامل معها المبادرة.
يقف ولي الأمر عقبة أمام القاصرات تحول دون تقديمهن محاضر ضد من يبتزهن؛ لهذا يحاول اليماني من خلال المبادرة إيجاد حلول ودية بالسُبل المختلفة لردع المبتزين، وإجبارهم على توقيع إقرار مكتوب ومصور بعدم التعرض مرة أخرى للضحية.
ووفقًا لدراسة أجرتها مبادرة speak up، وهي مبادرة نسوية لدعم ضحايا العنف بكل أشكاله، عام 2024، فإن ما يزيد عن ثلاثة آلاف حالة تعرضت للابتزاز، تبيّن أن 90% منها نساء، ولم تُقدّم منهن سوى 10% فقط بلاغات رسمية؛ بسبب عدم معرفة إمكانية الإبلاغ تارة، أو الخوف من الأهل وتبعات الإبلاغ عن المبتز تارة أخرى. وتوصلت الدراسة أيضًا إلى أن 10.3% من القاصرات، من مواليد ما بين عامي 2006 و2010، تعرضن للابتزاز.
والدة "نيرة" آخر من يعلم
في منزلها البسيط بقرية ميت طريف، التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية، قابلتنا والدة نيرة صلاح، التي لم تخلع ثوب الحداد بعد منذ أن فقدت ابنتها في 24 فبراير/شباط 2024. لم تعلم الأم ما تعرضت له ابنتها قبل رحيلها، توالت الأخبار والمعلومات من صديقاتها بعد الوفاة بأسبوع، واطّلعت الأم على بعض رسائل التهديد في هاتف نيّرة.
بدموع الحسرة تروي الأم تفاصيل الواقعة، فابنتها لم تخبرها بما تتعرض له من تهديد وابتزاز، تعتقد أن سبب إخفائها المشكلة خوف نيّرة من رد فعلها، الذي كان ليصل حد منعها من الذهاب للجامعة مرة أخرى؛ بدليل إخفائها خبر عدم حصولها على تقدير مرتفع في الفصل الدراسي الأول عن أسرتها، إذ شددت عليها والدتها بأنها في حال انخفاض معدلات نتائجها لن يُسمح لها بإكمال تعليمها.
ضحية المشكلات الأسرية
وقعت سهيلة محمود(*) البالغة من العمر 17 عامًا فريسةً للابتزاز الإلكتروني عام 2023 عبر فيسبوك، تحت تأثير غياب اهتمام الأسرة المنشغلة بمشاكلها، ائتمنت أحدهم على أسرارها دون أن تعلم أن ذلك سيكون سلاحًا لتهديدها. استمرت علاقتها بذلك الشخص ثلاثة أشهر، أظهر لها خلالها كل الدعم والاهتمام؛ فتحدثت عن عائلتها وتفاصيل حياتها ونقاط ضعفها وخوفها من والدها، ما جعلها عرضة للاستغلال والتهديد.
تقول سهيلة إنها فوجئت بشريكها العاطفي يطلب منها صورًا خاصة، ويهدّد بكشف علاقتهما أمام عائلتها، بجانب إفشاء أسرار أسرتها، إذا رفضت إرسال الصور. لم تجرؤ سهيلة حينها على إخبار أسرتها؛ لخوفها الشديد من رد فعل والدها، فطلبت من خالها المساعدة، وبعد حديثه مع المُبتز ساءت الأمور أكثر؛ وتمادى في تهديداته.
"فكّرتُ في قتل نفسي"، تقول سهيلة غارقة في دموعها خلال حديثها لمُعدّة التقرير عن شعورها باليأس نتيجة تهديدات المبتز التي لم تتوقف. أبلغت صديقاتها بما آلت إليه الأمور، فاقترحت إحداهن تحرير محضر رسمي، لكنّ الخوف من ضرورة حضور الأهل، دفعهن للجوء إلى صديق اقترح "تهكير" هاتف المُبتز، وبالفعل تمّت العملية بنجاح، وقام بحذف جميع المحادثات بينهما، مُنهيًا أزمة تهديدها.
ورغم انتهاء علاقتها بالمبتز، فآثار هذه التجربة النفسية لم تنتهِ بعد، حتى بعد مرور سبعة أشهر. تقول سهيلة إنها تعلمت كثيرًا من التجربة رغم قساوتها؛ لكنّها ما زالت تلوم نفسها باستمرار.
قاصر في المباحث
يقول أحمد الجدامي المحامي بالنقض والدستورية العليا لـ المنصة إنه في حال تعرضت قاصر للابتزاز، وتوجهت لتحرير محضر في مباحث الإنترنت، يُرفض ذلك، ويُشترط وجود "وليّ أمرها" لتحرير المحضر؛ وهو ما تخشى الضحية من تبعاته.
وأشار الجدامي إلى وجود آلية أخرى قد تكون حلًا؛ وهي "نجدة الطفل"، التابعة للمجلس القومي للطفولة والأمومة؛ لكنّ الوعي بهذا المسار منعدم.
المفارقة هنا، كما أوضح الجدامي، أن القُصّر في عمر 15 عامًا تمّ استثناؤهم، بإمكانية تحرير توكيل للمحامي ورفع دعوى "نفقة"، على سبيل المثال، ضد الأب أو الجد والجدة، ضمن قانون الأسرة. وتساءل المحامي الجدامي عن سبب تأخر القانون في تنفيذ مقترح واضح وصريح في حالة الابتزاز، يُمكّن القاصرات من تحرير محضر والاستعانة بمحامٍ من دون "وليها".
تخفيف الأحكام حماية للجناة
حالة واقعية عايشها بنفسه المحامي أحمد الجدامي، لطفلة كانت في عامها الخامس عشر، تعرضت للابتزاز من شاب في العشرينيات من عمره، جمعتهما علاقة عاطفية؛ تطور الأمر بتهديدها بصور عارية سبق أن أرسلتها له. سيطر الخوف على الفتاة، التي قررت في النهاية إخبار والدها بما تتعرض له من ابتزاز؛ فخطّط الأب للقبض على المبتز، وقامت ابنته بتحديد موعد معه في ميدان رمسيس بالقاهرة، وبالفعل اصطحبه إلى قسم الشرطة بمساعدة أهالي المنطقة. وصّفت النيابة القضية بهتك العرض، وأحيل الجاني للجنايات.
وبناءً على استبيان أجرته معدّة التقرير، شاركت فيه 46 قاصرًا من سبع محافظات مختلفة في مصر؛ تبين أن 30.4% من العينة تعرضن للابتزاز الإلكتروني، منهن 60% قبلن بطلبات المُبتز، و93.5% لم يعرفن الحقوق القانونية للضحايا، و82.6% لم يعرفن أن "نجدة الطفل" من الجهات التي يمكن تقديم الشكاوى لها.
من جانبها، أكدت انتصار السعيد، محامية بالنقض ومديرة مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون أنه يُطلب من المُبلغة إذا كانت قاصرًا، أي أقل من 18 عامًا، حضور ولي الأمر كشرط أساسي لتحرير محضر، ويتعلق الأمر بالأهلية القانونية، وفي أغلب الحالات ترفض الفتاة إبلاغ الأهل.
وتقترح انتصار ضرورة إنشاء وحدة متخصصة، وفق معايير معينة، لحماية الفتيات ضد العنف، وتتمتع بصلاحيات تمكنها من التعامل مع الضحايا، كما هو موجود في بعض الدول مثل الكويت التي لديها وحدة فعالة تستقبل الشكاوى بسرية تامة من خلال الهاتف؛ وبصرف النظر عن سن المبلغ أو المبلغة، يتمّ التعامل مع الجاني.
تعتقد المحامية الحقوقية أن الإجراءات التي تتبعها الجهات أثناء التحقيق في الوقائع تحتاج لإعادة نظر، مشيرة إلى أنها عاينت بنفسها حالة في مباحث الإنترنت تعرضت للعنف الرقمي، فأُجبرت على سرد الواقعة عدة مرات، ما يُصعب الأمر على الضحايا.
وتضيف مديرة مؤسسة "القاهرة للتنمية والقانون" أن هناك حالات عديدة لفتيات أقل من 21 عامًا، لجأن إلى المؤسسة بسبب تعرضهن للابتزاز، وتم توجيههن لنجدة الطفل؛ رغم أن هذه الحالات لا يتم التفاعل معها بشكل جيد.
"نجدة الطفل".. تجربة خاصة
خاضت معدة التقرير محاولة للاتصال بالخط الساخن لنجدة الطفل على رقم 16000 لسبعة أيام متتالية، لكن لم يردّ عليها أحد، وعندنا عادت للاتصال مجددًا، ردّ عليها أخيرًا أحد المختصين، وبعد عرض مشكلة ابتزاز تتعرض لها صديقة، قاصر، نصحها المختص بضرورة إبلاغ الأهل.
حاولت سؤاله عن حل آخر، لصعوبة إبلاغ الأهل وما قد يترتب عليه من مخاطر، إلا أنه تمسك بالإبلاغ، لتضعنا التجربة أمام مشكلة حقيقية تتعلق بكفاءة مَن يتلقون اتصالات الضحايا.
ولم تتلق معدّة التقرير ردًا من صبري عثمان، مدير خط نجدة الطفل، بعد محاولات التواصل معه عن طريق المكالمات الهاتفية والرسائل، للتعليق على تجربتها في التواصل مع خدمة الخط الساخن.
الخرس الأسري وراء زيادة الابتزاز
"الخرس الأسري" هو التعبير الذي استخدمته الدكتورة عبلة البدري، أستاذة علم الاجتماع واستشارية حقوق المرأة والطفل، كأهم أسباب انتشار ابتزاز القصّر. تقول "إن فقدان التواصل داخل الأسرة، وتجاهل احتياجات القاصرات ومشكلاتهن، يدفع الفتاة للبحث عن هذا القرب والتواصل خارج إطار الأسرة؛ ما يعرضها لخطر الاستغلال والابتزاز".
وترى عبلة أنه مع انتشار حالات الانتحار بسبب الابتزاز أو الخوف من إبلاغ الأهل، لا بدّ من البدء بتوعية الفتيات، عن طريق السوشيال ميديا، بضرورة الإبلاغ في حال تعرضت أيّ فتاة للابتزاز، وعدم الرضوخ لطلبات المُبتز. وللإعلام دور فعّال في التوعية، كما على الأسرة دعم الفتيات عند تعرضهن لأيّ ابتزاز، وحمايتهن حتى تنتهى الأزمة، وفق أستاذة علم الاجتماع عبلة البدري.
وهذا ما تؤكده الدكتورة ألفت علام، استشارية العلاج النفسي والإدمان، والخبيرة الدولية في النوع الاجتماعي، والعلاج الأسري والزوجي، تقول "إن الفتاة التي تُقدم على الانتحار، تسير في مسار نفسي من الرعب والخوف من الفضيحة، ولا ترى أمامها أيّ حل". كما تشير إلى أنه في حالة الابتزاز والتنمر، تشعر الضحية بيأس شديد ورفض، وتحاول إنهاء المشكلة بأيّ شكل. أما مَن تجد المساعدة وتتلقى الدعم فتتغير حياتها، وتكون الأزمة مفترق طرق، وتتحول حياتها بشكل إيجابي.