في صباح يتكرر كل شهر، أستيقظ على ألم يزيد ساعة بعد ساعة تصاحبه نوبة بكاء، أحترف المقاومة بالانخراط في ممارسة مهامي اليومية. أتناول الأدوية المسكنة وأرتدي الملابس القاتمة، أذهب للعمل دون أن يلاحظ أحد ما أعانيه.
هذه يومياتي خلال الدورة الشهرية؛ تلك الأيام التي تلازمني فيها الرغبة بأن تبتلعني الأرض فلا يراني أحد. أتحمل الألم، تتغير ملامح وجهي، ينتفخ صدري، أعاني غثيانًا يفقدني شهيتي، وليس هذا حالي وحدي.
حسب استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف بمشاركة ألف امرأة عام 2016، قال 52% من المشاركات إن قدرتهن على العمل تأثرت بسبب آلام الدورة الشهرية، لكن 27% منهن فقط أخبرن المدير بالسبب وراء تأثر قدرتهن على العمل. وطلب نحو ثلث مَن شاركن في الاستبيان إجازة مرضية ليوم على الأقل خلال فترة الدورة.
ولكن يبقى هناك جانبٌ لا يعرفه أو ربما يتجاهله البعض، وهو ذلك الشعور بالخجل الذي يصاحب بعض النساء أثناء الدورة الشهرية؛ خجل نابع من "العار/النجاسة" التي ترتبط في ذهنية بعض المجتمعات العربية بالدورة الشهرية.
ميراث الوصم
ترجع نجوى إبراهيم المديرة التنفيذية لمؤسسة إدراك للتنمية والمساواة الوصم إلى جذور ثقافية واجتماعية عميقة، تشمل التربية المجتمعية والعادات والتقاليد. تقول لـ المنصة "بنربي البنات على اعتبار الدورة موضوع محرج ومش نضيف"، وذلك مع ضعف الوعي المجتمعي بموضوعات الصحة الإنجابية والجنسية.
تعتقد الناشطة النسوية أن التراث الديني الذي يربط مفهوم عدم الطهارة بالدورة الشهرية له دوره في تعميق الشعور بالنبذ أو التهميش خلال هذه الفترة. فهي خلال الدورة غير صالحة للصلاة وغير مرحب بها في المساجد وممنوع عليها الإمساك بالمصحف، فهو طاهر وهي نجسة.
يتجلى الوصم المرتبط بالدورة الشهرية في عدة أشكال تؤثر على حياة النساء بطرق مباشرة وغير مباشرة، منها على سبيل المثال العزلة الشخصية حتى في البيئات العائلية أو التعليمية. كما يترتب عليها التمييز ضدهن؛ فبعض النساء يواجهن صعوبات دون أن يتمتعن بالدعم أو التسهيلات التي قد يحتجنها، مثل توفير الفوط الصحية والمسكنات والتوجيه والإرشاد حول طرق التعامل مع الألم وتخفيفه. وهذا يؤدي إلى التمييز الضمني أو المباشر ضدهن، حسب نجوى.
في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وصف أفلاطون الرحم بأنه كائن حي "يغضب ويحزن" إذا لم تتحقق رغبته في الحمل، وساد اعتقاد بأن للدورة الشهرية علاقة بالكثير مما يصيب النساء من أمراض. تعمق هذا الميراث لدى النساء جيلًا بعد جيل وكبرنا ونحن نخفي آلامنا عن العالم، ننزوي في حجراتنا خوفًا من أن يكتشف أحدٌ دورتنا الشهرية فنُمسك بالجُرم المشهود.
ورثنا الربط بين نزيف الرحم والعار والخجل والنجاسة، في عالم لم يُفسح المجال للنساء يومًا للتعبير عن ذواتهن وعلاقتهن بأجسادهن. لا يزال الحديث عن الدورة "عيب" قد يصل إلى الفضيحة أحيانًا، لذا نتكتم عليها ليغدو "الكيس الأسود" بطلًا مرافقًا للفوطة الصحية، يسترها عن أعين المارة.
تستخدم الكثير من الصيدليات أكياسًا سوداء لوضع عبوات الفوط الصحية فيها عند بيعها، فنزيف رحمك، وفق العُرف، فضيحة يجب ألا تنكشف!
بيان اتحاد الملاكمة الذي أشار للدورة الشهرية دون ذكرها يعكس الوصمة المتوارثة
هذا المنطق نفسه الذي تعاملت به اللجنة الأولمبية المصرية في بيانها حول استبعاد الملاكمة يمنى عياد من أولمبياد باريس 2024 بعد زيادة وزن اللاعبة 700 جرام عن الوزن الذي كان من المقرر المنافسة فيه. البيان أشار بشكل غير مباشر إلى الدورة الشهرية، باعتبار الحديث عنها "غير لائق".
الوصمة ذاتها تمنع إسراء إيهاب، ابنة محافظة الدقهلية، من طلب الفوط الصحية حال وجود زبائن غيرها في الصيدلية، تقول لـ المنصة "لو لقيت حد بفضل مستنية لحد ما يمشي، ولو اللي بيبيع راجل باخرج أدور على صيدلية تانية فيها بنت".
تعمل إسراء الآن بإحدى شركات الترجمة، وما زالت تحمل ميراث الثقافة الشعبية بعدما وصلت لسن الـ26 "ماقدرش أطلب من حد يشتريلي فوط". ولكنها وجدت طريقًا للتعايش "ساعدني وجود ركن مخصص للفوط في الصيدليات، بأروح آخدها وجنبها الأكياس السودا، وأحاسب من غير كلام، وكأني بشتري مخدرات".
تنسحب طريقة جلب المخدرات إلى تعامل الفتيات مع الدورة عمومًا "بنسميها أسماء حركية أنا وصاحباتي.. البتاعة نزلت، أو العادة جت، وفي بعض الأحيان بريود/period".
مغامرة الحصول على فوطة
يستثقل الزوج مهمة شراء الفوط الصحية لزوجته، والبعض يمتنعون ويرون ذلك عيبًا. حتى وإن رآها أحدهم أمرًا طبيعيًا بينه وبين نفسه، لكن الخوف من نظرة المجتمع يجعله يتردد.
تقول الصيدلانية يسرا أيمن لـ المنصة "ساعات لما راجل يطلب فوط يبقى كاتبها في ورقة عشان ما يقولهاش بصوته"، مؤكدةً أن الأغلبية العظمى من زبائنها من النساء، وتحديدًا الأمهات، يأتين للشراء لبناتهن.
ترى يسرا أن الوضع في العاصمة والمدن الكبرى يختلف عنه في القرى والمدن الصغيرة. فمثلًا في طنطا، محافظة الغربية، حيث تعمل، فإن نسبة الأزواج أو الإخوة من بين الذكور الذين يأتون لشراء الفوط الصحية أكبر، وإن كان هذ الوضع لا ينسحب بالضروة على الآباء، تقول "ربما لم أصادف خلال سنوات عملي أي أب يشتري لابنته".
كيف نتجاوز الشعور بالوصم؟
تحمل تجربة آلاء عماد، التي تعيش بحي مصر الجديدة ومن مواليد مدينة طنطا، تعاملًا مختلفًا مع الدورة، تقول لـ المنصة "اتعودنا في البيت من زمان أقول عادي قدام بابا الله يرحمه وأخويا، خاصة أن البيت كله دكاترة، فبابا ماكنش بيتفاجئ، بالعكس كان ممكن يديني مسكن". لكن ذلك لم يجعلها قادرةً على التعامل بنفس الأريحية مع أصدقائها "لما أبقى موجوعة ما بقولش السبب،، مش طالبة وجع دماغ".
تفرض الدولة قيودًا على المجتمع المدني.. فيه قلق حكومي من أي كلام على الجندر
تشير وسام الشريف، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة مصريين بلا حدود للتنمية، واستشارية بناء القدرات من منظور حقوقي، إلى أن جزءًا من الوصم المجتمعي وعدم امتلاك المعرفة الكافية بأمور مثل الدورة الشهرية يتأتيان من انخفاض مهارات مدرسات ومدرسي العلوم في تناول الموضوعات المتعلقة بالصحة الجسدية والجنسية والإنجابية، وافتقارهم للتدريب والمعرفة اللازمين للحديث مع المراهقين.
تؤكد وسام لـ المنصة أن "وزارة التربية والتعليم لديها تحسس من مناقشة هذه الموضوعات. أنا مش فاهمة ده خجل ولا خوف من الرأي العام، ولا فيه موانع قانونية"، تستنكر أيضًا القيود المفروضة على المجتمع المدني في تنفيذ برامج توعية بالصحة الجنسية والإنجابية بالتعاون مع الوزارة، وهو مجال عمل وسام.
لا يتوقف التعامل المجتمعي مع الدورة عند الوصم، لكنه يصل للإساءة للنساء والتهكم عليهن. تقول لمياء لطفي الناشطة النسوية لـ المنصة "فيه رجالة مش بتاكل من أكل عاملاه ست حائض، ورجالة تانية مش بتنام جنب زوجاتهم في أيام الدورة".
وتنوه لمياء لأن هذا التغير الفسيولوجي يستخدم لتكريس أنماط من العنف ضد النساء "اللي هي متأصلة في المجتمع الشرقي".
وتشير وسام الشريف إلى أمثلة للعنف المبني على الوصم، منها حظر تناول بعض الأطعمة مثل المخلل واللبن الرايب وغيرها، أو منع النساء والفتيات من دخول الأماكن الدينية، أو اشتراط عزل النساء والفتيات أنفسهن، فضلًا عن القيود المفروضة ذاتيًا، تقول "كل هذا يعزز فكرة عدم أحقية النساء في الوجود بشكل مساوٍ للرجال، ويؤكد أنهن أقل قدرة على المشاركة في الحياة العامة".
ضد العنف
لتجاوز هذه الأشكال من الوصم والعنف، نظمت مؤسسة مصريين بلا حدود حملات متعددة لكسر القيود حول الحديث عن الدورة الشهرية على السوشيال ميديا، وندوات وتدريبات للنساء والفتيات فضلًا عن إنتاج أفلام تناقش قضايا الفقر وتأثيره على عدم قدرة النساء والفتيات على شراء الفوط، باعتبارها واحدة من أسباب التسرب من التعليم في المجتمعات الفقيرة.
من ضمن هذه الحملات، سعت حملة "خالية من العنف" للتصدي للعنف القائم الذي يواجه الطالبات بالمدارس، بهدف خلق مساحات آمنة للحديث عن الموضوعات الشائكة، ومنها الدورة الشهرية. وكان جزء كبير من الحملة موجهًا لبناء احترام الذات لدى الفتيات، ووضع حد لوصمة العار التي ترافق الدورة الشهرية.
إذا لم يستوعب المجتمع ما تمر به النساء في فترات الحيض بشكل طبيعي، فالتغيير يجب أن يبدأ منا نحن النساء. علينا أن نتخطى الحواجز، وربما نكون في حاجة للصدمة، والجهر دون خجل.
شخصيًا تطلب الأمر مني سنوات من العمل في قضايا تلامس النساء بشكل مباشر، لأتجاوز الشعور بعيب كوني امرأة تعاني آلام الدورة شهريًا؛ لم يعد هناك ما يخجلني في شراء الفوط الصحية، لم أعد أتستر أو أشعر بالإحراج. لقد تمردت أخيرًا على الكيس الأسود.