تصميم: يوسف أيمن - المنصة

عندما لا يصدق المجتمع النساء

منشور الأحد 29 ديسمبر 2024

تفرض طبيعة عملي كناشطة في مجال حقوق النساء، التعرض لما يواجهه قطاع عريض منهن، من عنف وظلم وتهميش، لأصبح شاهدة على الواقع، في فبراير/شباط الماضي نظمت مبادرة "بر أمان" ورشة سيكودراما للناجيات من العنف، وهو ما يعد أسلوبًا علاجيًا نفسيًا جماعيًا يعتمد على وجود الفرد داخل الجماعة. تهيئ الجماعة الفرصة للفرد من أجل التعبير التلقائي عن مشاكله النفسية وصدماته، ويتخذ هذا التعبير أشكالاً ذات طبيعة درامية متعددة ‏في التعبير اللفظي والأدائي بالحركة والفعل.

من بين الناجيات كانت نهى(*) التي تعرضت للتحرش الجنسي من قريبها، منعتها صدمتها من البوح بما حدث، واكتفت بتجنب المعتدي، غير أن مشادة مع والدتها انتهت إلى اعتراف نهى بتعرضها للتحرش. صُدمت والدتها وقررت التحدث إلى الشخص، ثم عادت لتؤكد إنه "بيهزر وانتي فهمتيه غلط" ليُغلَق الموضوع إلى الأبد. 

في كل مرة تطفو على سطح السوشيال ميديا قصة عن واقعة تحرش، يبدأ الجدل اللا نهائي حول سؤال لماذا نصدق المدعية؟ يصل في كثير من الأحيان حد تكذيبها، كما حدث في الاتهامات التي وجهت لصلاح التجاني، وتولت أم المدعية الدفاع عن المتهم، في واقعة أثارت الدهشة والخوف معًا. 

تخلي الأهل 

فتحت الأم الباب واسعًا لنقاش حول تصديق النساء والدعم الأسري للشاكيات، فكيف لأم أن تكذّب ابنتها وتصمها بالمرض النفسي بعد تعرضها لتجربة مرعبة بدلًا من دعمها؟ كيف تقف في صف المعتدي بدلًا من صف ابنتها؟

ربما ردة فعل الأم تلك هي ما تقف حائلًا دون البوح بسبب علاقتهن المضطربة مع الأسرة والظروف النفسية الصعبة التي يعشنها، إذ يُخيّل لهنّ أن ردة الفعل ستكون قاسية.

في عالمنا العربي، تكثُر التابوهات والأسباب التي طالما منعتنا من البوح، وجعلت أصوات كثيرات منّا تتهاوى على حافّة اليأس. لكن الوضع لم يستمر كذلك.

تخشى الأم مواجهة المجتمع الأبوي الذي يصم النساء، فلا تصدق ابنتها

ففي عام 2017 غردت المُمثلة الأمريكية إليسا ميلانو داعية النساء للتحدث علنًا عن تجاربهن مع التحرش والاعتداء الجنسي. وكانت ميلانو واحدة من أوائل النساء اللاتي اتهمن المنتج الهوليوودي الشهير، هارفي واينستين، بالاعتداء والتحرش الجنسي.. اكتسح الهاشتاج MeToo#، وبات أشبه بقاعدة بيانات دولية  لضحايا التحرش الجنسي من جميع الجنسيات.

سرعان ما اشتبكت نساء عربيات وبدأن التدوين على هاشتاج #أنا_أيضًا وفي مصر تحديدًا أفصحت فتيات كثيرات، بعضهنّ قاصرات، عن تعرّضهنّ لاعتداءات جنسية، بعضها من داخل الأسرة. 

تعلمت من واقع خبرتي، أنه لا توجد "اللحظة صفر" لانفراط عقد بوح الناجيات من العنف الجنسي، لكن زخمًا من الشهادات ظهرت في فترات متقاربة، لا سيّما في السنوات السبع الأخيرة، تنوع فيها الجناة مرّةً طبيبًا، ومرّةً كاتبًا مرموقًا، ومرّةً مخرجًا، ومرّةً رجل دين، لترسم ملامح العالم الذي تعيشه النساء في مصر.

في الورشة، نتشارك التجارب والدعم والألم، وهو ما جعل أحلام(*) ذات الـ 23 عامًا تحكي عن تعرضها للتحرش وهي في التاسعة من عمرها تقريبًا. بكت أحلام عندما تذكرت رد والدتها عندما أخبرتها عما حدث "انتي أكيد بيتهيألك".

سألتنا أحلام من بين دموعها "إنتو مصدَّقينّي؟" فتعلمت من خبرتها أن التكذيب سابق على التصديق في مثل هذه الأحوال، خاصة أنها قررت مشاركتنا التجربة رغم بعدها الزمني، لأنها تمثل أكبر صدمات حياتها. 

الصدمة 

"الطفل المصدوم من أحد والديه ليس لديه أحد ليتكلم معه. هذه هي الصدمة"، حسب الدكتور جابور ماتي، وهو طبيب نفسي ومؤلف كندي. مهتم بالممارسات الأسرية وتنمية الطفولة، والصدمات وتأثيراتها المحتملة مدى الحياة على الصحة البدنية والعقلية.

حين يتأمل ماتي هذا السؤال "لماذا يتألم الناس؟" فإنه يقترح ألا نتمعن في جينات الإنسان، بل في حيواته. وضرب ماتي مثلًا بمرضاه المدمنين بشدة؛ فالمئات منهم تعرضوا للاعتداء الجنسي عندما كانوا أطفالًا، ويضيف أن الرجال أيضًا تعرضوا لصدمات نفسية واعتداءات جنسية، وأُهمِلوا وعُنِّفوا جسديًّا، وتم هجرهم والإساءة لهم باستمرار؛ لهذا وُجِد الألم. 

اللجوء لمجموعات  الدعم وسيلة فعّالة للتعاطي مع الآثار النفسية للاعتداء الجنسي

تتفق معه الدكتورة ألفت علام استشارية العلاج النفسي والإدمان، تقول لـ المنصة "الأهل هم المصدر الرئيسي والأساسي للإحساس بالأمان والقبول غير المشروط. وعند حدوث شرخ في هذه المشاعر والمفاهيم يبني ذلك عنده صورة ذاتية سيئة عن نفسه وعن الآخرين، ويترك في نفسه شعورًا دائمًا بعدم الأمان والإحساس بالخذلان والتخلي".

هذه المشاعر السلبية تدفع بعض الفتيات ممن تعرضن لعنف جنسي إلى اللجوء أحيانًا إلى ممارسات عدوانية على أجسامهن؛ حسب الخبيرة النفسية، مثل إيذاء النفس/cutting كنوع من تفريغ الغضب والعدوان تجاه أهلها وتجاه نفسها أيضًا.

حرصًا على العلاقات الإنسانية ولصعوبة الموقف، يجيز القانون المصري للأم والأب الامتناع عن الادلاء بشهادتهما ضد الأبناء في المحاكم. يدرك المشرِّع صعوبة فصل المشاعر عن الشهادة التي قد تكون مجروحة نظرًا لتعاطف الأهل مع أبنائهم وكذلك الرغبة الإنسانية في تصديق رواياتهم، لكن لماذا نرى النقيض يحدث عندما يتعلق الأمر بتعرضهم/ن للعنف الجنسي؟

تُرجع لمياء لطفي الباحثة والمدربة في مجال حقوق المرأة السبب إلى أن الأمهات والآباء أنفسهم في هذه المواقف يتعرضون لحالة من الارتباك، تقول لـ المنصة "تخشى الأم مواجهة المجتمع الأبوي الذي يصم النساء، غير وجودنا ونشأتنا في ظل ذكورية اتعودت تلوم الضحية، وتعتبر إن الستات مسؤولات عن تعرضهن للعنف الجنسي، وليس مرتكب جريمة العنف". نتيجة لذلك يفضل الأهل عدم الاعتراف خوفًا من المجتمع.

فيما تعتقد ألفت علام أن الأهل أحيانًا يستخدمون الإنكار كحيلة دفاعية، فيميلون إلى عدم التصديق، ليس لأنهم لا يدافعون عن البنت، بل لأنهم يدافعون عن أنفسهم ضد الشعور بالتقصير في الحماية، وعدم الدفاع عن حق ابنتهم بما يقتضيه من مواجهة للمجتمع.

ماذا نفعل إذا لم يصدق الأهل روايتنا؟

لا يوجد رد فعل مثالي للتعاطي مع حدث معقَّد ومركب كهذا، كلها محاولات للنجاة، وهي أيضًا أفعال شخصية ونسبية تمامًا، لكن هناك خطوات نحاول أن نحد بها ألم التجربة

أولها الوعي بتأثير الحَدَث، فالتعرض للاعتداء الجنسي يتسبب في الإصابة باضطراب كرب ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات النوم والأكل وغيرها. كما قد تُسبب الصدمة تشوّشًا في الذاكرة، تُفقد القدرة على تذكّر تفاصيل الواقعة. كما تكون الكوابيس حول الحدث شائعة.

ثانيها التوقف عن اللوم، إذ تضع الضحية نفسها موضع الشريك في الجريمة نتيجة للومها وعدم تصديقها. تبني  الضحية لفكرة أن ما حدث ليس مسؤوليتها؛ وأنه لا علاقة له بما يعتقده الأهل يساعد في تجاوز الصدمة.

ثالثها في حالة كون المعتدي من أفراد الأسرة وقررت المعتدى عليها الحكي أو الإبلاغ، فمن الأفضل طلب الدعم من أشخاص مقربين يمكن الوثوق بهم، كالأصدقاء، ويمكن اللجوء إلى مُحامين أو مؤسسات دعم ضحايا العنف. رابعها اللجوء لأطباء أو معالجين نفسيين ومحاولة التجاوز.

خامسها اللجوء لمجموعات ودوائر الدعم، التي تعد وسيلة فعّالة للتعاطي مع الآثار النفسية للاعتداء الجنسي. كما أن البوح في مساحات آمنة قد يخفف من الشعور بالخوف والخزي.

في كتابها روح امرأة تقول إيزابيل الليندي "قليلات هن النساء المتحررات من الخوف، إلا عندما نصبح معًا، نشعر بين المجموعة بأننا لا نقهر".

هذا ما لم توفره أسرة نهى ما جعلها تفقد ثقتها فيها، لأنها لم تنتنفض للدفاع عنها، أو على أقل تقدير لم تصدقها فيما تعرضت له، لا تزال تعيش معهم لكنها شبه منعزلة، تأمل أن تستقل بحياتها يومًا بعيدًا عن هذا البيت.


(*) اسم مستعار حماية لخصوصية المصدر