كانت فهيمة، جدتي لأمي، تصنع لنا وجبة صباحية اسمها العصيدة، أسرع وجبة تسد أفواه الصغار بمكونات في غاية البساطة: دقيق يقلب مع الماء على النار، ثم يُضاف إليه السكر، وفي خلال ربع ساعة يكون جاهزًا، ثم يُغرف في أطباق، قبل أن يضاف على سطحها السمن البلدي السايح، مثل بقعة زيت طافية تظل تترجرج وتأخذ أشكالًا عدة، على ذلك المسطح الأبيض.
ترجع أصول العصيدة إلى الصحراء، حيث جاء الآباء الأوائل لعائلة جدتي. ربما بساطة المكونات تشبه بساطة الصحراء، وبساطة الطفولة معًا.
يحتاج اكتشاف العصيدة لبديهة يقظة، البديهة نفسها التي اخترعت "حلاوة الدقيق" بالمكونات ذاتها لكن باختلاف طريقة الطهي وكثافة العجينة، لتحصل على مذاق وقوام مختلفين تمامًا. هذه المكونات الأساسية تشكل "الجذر اللغوي" متعدد الاشتقاقات في الأكلات المصرية، كما في الأسماء والأفعال في اللغة العربية.
رحلة العصيدة
كان مذاق العصيدة بسيطًا في أفواهنا، لا شيء يميزه، كونه يعتمد على مكونات ليس لها مذاق سابق باستثناء السكر، ربما المذاق نفسه، في تلك الفترة، كان يتشكل تبعًا لبساطة التكوين، ولعمى حساسة التذوق في أفواهنا نحن الصغار، بجانب براءة حدسنا؛ كنا نرى ما وراء ذلك الظاهر البسيط، لنكتشف الجمال الكامن في تكرار الأفعال والمذاقات العادية. في تلك السن الصغيرة، كنا نكمل الناقص، والذي لا ندرك نقصانه، بخيالنا وبحاجتنا للدفء، وهو ما ينطبق على حبنا للعصيدة.
ربما الرحلة التي قطعها تلك الوصفة عبر الزمان والمكان، من الصحاري التي جابتها حتى تصل إلى بيتنا في الإسكندرية، محمولة في مخيلة أحد الآباء الأوائل لعائلة جدتي؛ منحت ذلك المذاق البسيط خصوصية ما.
ربما كانت أغلب مذاقات الطفولة أحادية التكوين، ولهذا السبب احتلت مكانًا خاصا في الذاكرة، ليس فقط كونها ارتبطت بذكرى تأبين شجرة العائلة التي سقطت معظم أوراقها، ولم يعد فيها الكثيرون، وإنما حملت كذلك جزءًا حيًا، يقاوم الموت والنسيان والتأبين، فمن تلك الأحادية خرج التعدد، وامتلأ الكون والصحاري بالمأكولات.
للطفولة أيضًا ضلالات، تعيش معنا وتتحول إلى أيقونات حب أو كراهية أو نفور أو حنين، تقوم على روائح، أو مذاقات
وجبة الأحجار النيئة
لا أنسى القصة التي كانت تحكيها جدتي عن عمر، أمير المؤمنين الذي مرّ على خيمة بها أطفال يتامى الأب يبكون من الجوع، لكي تسكن أمهم جذعهم، وضعت أحجارًا في قِدر بها ماء ليغلي فوق النار، وهم من حولها في انتظار أن ينضج ذلك الطعام الذي لا يلين. ربما ناموا وهم يحلمون بالعشاء، بجوار دفء النار، التي سكنت الجوع، أو قربت حلم الشبع من عيونهم، لكن للقصة نهاية لم تروها جدتي؛ أن أمير المؤمنين أتى بجوال من الدقيق، حمله على ظهره من بيت المال للأم، لتصنع طعامًا حقيقيًا لأولادها؛ ربما كان العصيدة.
الرائحة النفاذة للمفتَّقة
هناك وجبة أخرى وهي المفتقة، أو الحلبة المعقودة، لم تدخل في أرشيف جدات عائلتنا، لكنها كانت حاضرة في حقائب الزملاء في صباحات المدرسة الابتدائية والإعدادية بلونها الأصفر الداكن المشرب بلون العسل الأسود، ورائحتها شديدة النفاذ. يمكنها أن تقفز فوق الأدراج، وتنتشر منفجرة في هواء الفصل الراكد.
كانت إحدى مفردات ذاكرة الطعام الجماعية لذلك الزمن، وجزءًا من لوازم الشتاء. كنت أنظر باستعلاء للمفتقة، ربما بسبب رائحتها الحادة التي لم أعتدها في بيتنا. قد يحمل ذلك الاستعلاء، بل النفور، وجهًا مضمرًا للطفولة، فللطفولة أيضًا ضلالات، تعيش معنا وتتحول إلى أيقونات حب أو كراهية أو نفور أو حنين، تقوم على روائح، أو مذاقات، تنتج "طبعات أولى" تظل مهيمنة على مذاقات مستقبلنا.
الِلبابة أو السخينة
هناك وجبة كنت أحبها وأطلبها من أمي في أوقات لا يتوفر غيرها، وهي "اللِبابة"، وهناك من يسمونها "سَخينة".
كانت تصنع من لُب العيش البلدي؛ داخله الطَّريّ، أو يمكن استخدام بقايا العيش البلدي البايت، يقطع باليد نتفًا صغيرة، ويحمر على النار مع الزبد أو السمن، ثم يوضع عليها كوب شربات السكر، وهناك من يضع العسل الأسود، ويظل الخليط على النار حتى يجف الشربات، ثم تؤكل ساخنة. ربما سخونة تلك الوجبات كانت تعوضنا عن عاديتها، فيختفي المذاق الأصلي وسط البخار المتصاعد.
مذاق المفروكة المخزِّز
كانت سَكينة جدتي لأبي تحترف صنع حلوى اسمها "المفروكة"، يضاف إليها القليل جدًا من الحلبة، وليس لها رائحة المفتقة، بل رائحة ومذاق الطعام القديم "المخزز"، وليس المعتق.
يخلط الدقيق مع السمن مع قليل جدًا من الحلبة، ويظل يفرك الخليط على البارد حتى تتحول كتلة الدقيق الكبيرة إلى حبيبات صغيرة متفاوتة في الحجم، ثم يوضع على منخل تحته ماء مغلي، ليسوى بالبخار، مثل طريقة عمل الكسكس، ثم تخزن في برطمانات زجاجية كبيرة، نغرف منها كل صباح بعد رش السكر عليها.
بمناسبة ذكر الكسكس، الذي كنا نتناوله بالسكر، لم تكن هناك محال تبيعه، فكان يرتبط بخبرة سيدات بعض البيوت القديمة في حي بحري؛ ونضعه في الفريزر، ثم نسخنه. كانت أكياس الكسكس تشغل حيزًا في فيريزر الثلاجة الإيديال الكبيرة، بجوار أكياس الطعمية النيئة، التي تنتظر دورها في صباحات الشتاء.
كان هناك اختراع آخر هدتني إليه فطرتي، يقفز لمخيلتي في أوقات الملل بحثًا عن التغيير، وهو سندوتش سمنة بسكر -أعرف أن هناك مخيلات أخرى اهتدت فطرتها أيضًا لذلك الاختراع، بدون أن نتعارف- ثم تسخينه جيدًا على النار حتى يتشرب نصف الرغيف البلدي بما فيه، وينشع السمن قليلًا على سطحه، أقضمه بقوة لأسمع صوت قرمشة السكر.
كان السكر، بكل اشتقاقاته، جزءًا من ذاكرة الطفولة، القناع الذي يتخفى وراءه الكثير من المذاقات العادية، ويمنحها التعدد.
يوقظ البرد حاسة التنبؤ أو الذكريات على حد السواء
الحامض والإسكندرية
هناك أكلة لم أجد أحدًا يعرفها خارج أحفاد عائلة جدتي فهمية، وهي الحامض؛ الأرز الذي يسوى مع الكثير من عصير الليمون، مع إضافة النعناع وخُضرة السلق بعد سلقهما، فيكتسب الخليط لونًا أخضرَ فاتحًا، ثم توضع فيه كرات الكفتة بعد وضعه في أطباق غويطة، وبعد أن يكتسب الخليط قوامًا متماسكًا بفعل نشا الأرز، يُترك ليجف فيؤكل باردًا، بعد إضافة "الصوص" الإضافي المكون، أيضًا، من النعناع والسلق، بعد تحميرهما في الزيت. كان المذاق قريبًا من تلك الحافة الخادعة للطعام "البايظ"، كما مذاق الجبنة الزرقاء. هناك لذة في ترويض ذلك المذاق المختلف.
قرأت عن هذه الأكلة في كتاب "التربية السكندرية" للكاتبة المهاجرة عزة هيكل. الكتاب عبارة عن ذكرياتها في الإسكندرية قبل الهجرة لفرنسا، وتحكي فيه عن طباخ بيتهم الذي كان يطبخ الحامض، وتتذكرها مثلي، مع أكلات أخرى تلخص لها "مذاق الإسكندرية".
ربما كانت لي مذاقات أخرى للإسكندرية لأني لم أهاجر مثلها، وربما كانت هجرتي دومًا في الزمان، سواء للماضي أو للمستقبل، وكلما انغلق المستقبل بسبب غياب الأمل، يتكاثر الزمن ويذوب سريعًا، باتجاه الماضي.
شتائي وشتاء صلاح عبد الصبور
لا أعرف لماذا أتذكر الآن كل تلك الأكلات، ربما بسبب شتويتها، ذكرني بها برد الإسكندرية.
يفتتح صلاح عبد الصبور قصيدته "أغنية للشتاء" بذلك البيت "ينبئني شتاء هذا العام"؛ ليربط بين الشتاء والنبوءة. يوقظ البرد حاسة التنبؤ، أو الذكريات، على حد السواء. ربما تصميم النبوءة له علاقة بالبرد أو بمعنى آخر بدفء الماضي، كون الزمن، بالنسبة للشاعر، يسير باتجاه المستقبل.
أغلب الأكلات التي تذكرتها ترتبط بالدفء الكامن في بساطتها، الذي يستدعي بالضرورة دفء الذكرى المحيطة بها، ليس فقط لأنها أكلة قديمة، لكنها أكلة تحمل ذاكرة جماعية.
ربما كنت أتلمس دفء الجماعة الكامن داخل تلك الأكلات، سواء اللبابة أو حلاوة الدقيق أو المفروكة أو العصيدة، وغيرها من الأكلات، كأننا نخزن داخلها ذلك الدفء ونستدعيه بمجرد أن تلامس أفواهنا. البرد يجعل تلك الجماعة تنتفض بداخلنا وتقوم من سباتها.
بساط البعث
منذ عدة سنوات أثناء موجة الصقيع التي عمت مصر كلها، أخبرتني صديقة قاهرية أنها في ذلك اليوم تنقلت في الشارع من مكان لآخر. كل من صادفتهم، في تسكعها، كان الصقيع يشكل رابطًا بينها وبينهم، يسهل التواصل، كأنه يخفي الدفء بداخله، كما يخفي شتاء عبد الصبور دفء الجماعة بداخله.
شتاء عبد الصبور يستدعى ذاكرة الموت لكن بوصفه رمزًا جماعيًا حميمًا يقرب بيننا، وليس الموت بمعناه المادي، عندما يكتب "ينبئني شتاء هذا العام/ أنني أموت وحدي/ ذاتَ شتاء مثله، ذات شتاء".
هو الشتاء المنوط به أن يحتفظ بذلك الرمز الجماعي، أما البرد فيستدعي كل تمثلات الجماعة الدافئة.
بالأكلات والقصائد نستدعي الجماعة الغائبة داخل ذلك الزمن، نحتفل معها على ضوء الشموع به بذلك الذي حملنا بين الماضي والمستقبل، كأنه "بساط البعث"، عليه نحمل غذاءنا الدافئ، وفي مكان آخر منه، هناك جماعاتنا التي نحملها في قلوبنا وفي ذاكراتنا، في رحلة البعث الطويل الذي نحياه.