حضور الوزراء المسؤولين عن الملفات الخدمية كالصحة والتعليم أو التموين لمجلس النواب، وإلقاء بياناتهم تحت القبة، يثير دائمًا لديّ تساؤلات عما بإمكانهم تقديمه. هل يمكن أن نسمع سياسة جديدة للتعامل مع المشكلات؟ هل سيرد ردودًا جذرية على شكاوى متكررة ومتراكمة عبر سنوات في كل محافظات مصر؟
بعد تولي وزير الصحة خالد عبد الغفار حقيبته رسميًا في أغسطس/ آب الماضي، بعد شهور من القيام بأعمال الوزيرة السابقة هالة زايد، تطلّع الكثيرون لبصمة مختلفة في إدارة ملف الصحة، لكن ردوده على طلبات الإحاطة والأسئلة وطلبات المناقشة العامة التي وجهها له النواب، أمس الأربعاء، كشفت عن "مراوغ جديد" في أروقة الحكومة، يضع مبررات تبدو منطقية، لكن مع بحثها والتدقيق فيها، وهي مهمة الصحفي الأكثر أهمية، سنعرف أنها مجرد محاولة للتسويف والهروب.
خصص رئيس مجلس النواب، حنفي جبالي، دقيقتين فقط لكل عضو للحديث. وبدأ بالنواب الذين تقدموا بطلبات إحاطة وأسئلة بشأن حالة الخدمة الطبية بالمستشفيات والوحدات الصحية، ونقص بعض الأجهزة والمستلزمات الطبية وأسرّة العناية المركزة، ونقص عدد الأطباء وهيئة التمريض.
كلمات المجالس المحلية
الجلسة التي استمرت نحو خمس ساعات، استقطع النواب منها نحو ساعة ونصف لمناقشة طلبات إحاطة خاصة بدوائرهم في المحافظات بالمراكز والمدن.
تحدث النائب علي بدر عن مشكلات بني سويف، وطالب بتوفير جهاز قسطرة في أحد المستشفيات، وأشار إلى مستشفى آخر مبني ومجهز بسعة 24 سريرًا، ودعا لتشغيله وتخصيصه للرعاية المركزة والحضانات، ونائبة سوهاج رقية الهلالي تحدثت عن مستشفى مغلق، ونقص أسرّة الرعاية المركزة، ومواطن يبيع بيته ليتمكن من علاج مريض من أقاربه.
الجميع يتحدث عن طلبات مشابهة في المستشفيات، بخلاف شكاوى الوحدات الصحية التي تعمل ساعتين فقط في اليوم.
هذه الطلبات، ربما يكون مكانها الأمثل مناقشات المجالس المحلية التي لم تتشكل بعد، لعدم صدور قانون الإدارة المحلية.
وكانت آخر انتخابات للمجالس المحلية في العام 2008، وحسمت غالبية مقاعدها بالتزكية لصالح الحزب الوطني، وأصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا بعد ثورة يناير 2011 بحلها.
وفي ديسمبر/ كانون الثاني 2019، رفضت أغلبية مجلس النواب مشروع القانون المقدم من الحكومة بشأن الإدارة المحلية، من حيث المبدأ، حتى الآن لم تجر مناقشة أي مشروع قانون خاص بالإدارة المحلية في مجلس النواب.
يسار المنصة
بعد الإغراق في مشكلات الدوائر، جاء صوت السياسة من على يسار المنصة، وفي الوقت نفسه لم ينس عدد من نواب "المعارضة" مشكلات دوائرهم.
بدأ النائب عبد المنعم إمام رئيس حزب العدل، حديثه بكلمة ساخرة، موجهًا التحية لوزارة الصحة "التي ترسي العدل بين المصريين، لا فقير عارف يتعالج بسبب سوء الرعاية، ولا الغني عارف يتعالج بسبب سوء ما يحدث في المستشفيات الخاصة وعدم الرقابة عليها".
وكشف إمام عن مشكلة مستشفى صدر المحلة التي يجري ترميمها بمبلغ 40 مليون جنيه منذ أربع سنوات، وأنفق منها 38 مليون جنيه حتى الآن، وأوضح وجود ضغط على مدير المستشفى لإجباره على للتوقيع بالاستلام، في الوقت الذي استعرض فيه صورًا تبين عدم جاهزية المستشفى.
وقال إمام "هذا الفساد الواضح أريد ردًا عليه، ماحدش بيرد عليه"، واختتم كلمته "مافيش أطباء، ركزوا في المستشفيات الموجودة، أرجوكم ما تبنوش حاجة جديدة وفروا أطباء وممرضين، إحنا مش لاقيين أطباء ولا ممرضين، المواطن يئن بسبب الصحة والتعليم".
فيما طالب النائب محمود بدر عضو المجلس عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين بمضاعفة عدد حضّانات الأطفال ومراكز الغسيل الكلوي.
وأشار بدر إلى معاناة الطبقة المتوسطة التي أصبحت أسيرة لـ "بيزنس الحضانات"، وقال "غير منطقي يكون في طفل يحتاج حضانة ونقعد نلف للبحث عن واسطة واتنين وتلاتة وممكن نكلم الوزير شخصيًا علشان نوفر حضّانة".
أما النائب محمد إسماعيل عضو تنسيقية شباب الأحزاب، فطالب بتوضيح سياسات الحكومة للحد من هجرة الأطباء، وسبل تحفيزهم للعمل في القطاع الحكومي.
وقال إن "الأرقام خطيرة تشير إلى أننا في مشكلة والحكومة يجب أن تقول لنا السياسيات لحل المشكلة"، واستعرض الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء التي توضح استقالة نحو 12 ألف طبيب.
ومن تنسيقية شباب الأحزاب أيضًا، تحدث النائب محمد عبد العزيز عن معاناة المواطنين في الوصول لسرير رعاية مركزة، وقال إن حجم الأسرّة لا يتناسب مع حجم الطلب على الرعاية المركزة أو حضانات الأطفال.
فيما طالبت النائبة أميرة صابر عضو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بالرقابة على القطاع الخاص، ودعت لقيام الوزارة بدورها في حوكمة المستشفيات الخاصة والرقابة على التسعير وجودة الخدمات، ووضع إطار حاكم للاستثمار الأجنبي في مجال الصحة.
من جهتها تساءلت النائبة أميرة العادلي عضوة تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، عن التأخير في تطبيق والاقتراح برغبة الذي قدمته ووافق عليه مجلس النواب، بشأن استخدام التكنولوجيا في الوصول لأسرة الرعاية والحضانات.
وقالت العادلي إن المسؤولين في وزارة الصحة قدموا عرضًا مبهرًا خلال مناقشة المقترح العام الماضي، وتعهدوا بتطوير تطبيق صحة مصر ليكون عليه خرائط وبيانات يمكن أن يستخدمها المواطن للوصول إلى المستشفيات أو أسرّة الرعاية المركزة أو الحضّانات، دون انتظار الوساطات أو اللجوء لأرقام الطوارئ التي لا تقدم إجابة، أو تلاعب المسؤولين في المستشفيات بالمواطن.
النواب الأطباء
كان للنواب الأطباء نصيبًا من المناقشة التي لم تكن حادة، لكنها كشفت عن مشكلات عامة، فالنائبة إيناس عبد الحليم طالبت بإعادة تفعيل اللجنة القومية لعلاج الأورام، ووضع بروتوكول علاجي موحد في جميع المستشفيات التي تقدم علاج لمرضى الأورام، موضحة وجود اختلاف بين المستشفيات الجامعية ومستشفيات التأمين والمستشفيات التابعة لوزارة الصحة.
وكشفت عبد الحليم عن وجود أزمة في أجهزة العلاج الإشعاعي في المستشفيات الجامعة، مشيرة إلى انتهاء عمرها الافتراضي.
أما سهير عبد الحميد، تحدثت عن أزمة عجز الأطباء التي وصلت إلى نسبة تقدر بـ 33% ، وعجز التمريض بنسبة 34%، "المستشفيات تئن من عجز الأطباء والتمريض" وتساءلت عن خطة الوزارة لسد العجز.
هجة مرتدة
في أول رد للوزير خالد عبد الغفار على المشكلات التي طرحها النواب، رمى الكرة في ملعبهم، مشيرًا إلى أن كافة المشكلات التي تواجه القطاع الصحي في مصر تتعلق بالميزانية. و"الموازنة العامة يتم تمريرها من النواب ويطلعون على كافة بنودها".
يتغافل هنا الوزير عمّا أقره دستور 2014، من وضع حدود دنيا لا يجب أن تقل عنها نسب موازنات الصحة والتعليم والبحث العلمي من إجمالي الناتج القومي، وإلا شابَ الموازنة عوارٌ دستوري.
لكن في الوقت نفسه، استخدم ذات العبارات التي يستخدمها المسؤولون الخاصة بالأزمة العالمية التي تؤثر على مصر، ودافع أيضًا عن أداء وزارته "لا يوجد محافظة على مستوى الجمهورية لا يوجد بها تطوير أو إعادة هيكلة أو رفع كفاءة".
واستعرض أرقام المستفيدين من خدمات التأمين الصحي التي وصلت إلى 11 مليار جنيه، والعلاج على نفقة الدولة الذي تكلف أكثر من 9 مليارات خلال عشرة أشهر.
ومثلما حمّل الوزير النوابَ مشكلة القطاع الصحي، ألقى بمشكلة نقص الحضانات على زيادة معدلات الولادة القيصرية التي وصلت لنحو 75% من عمليات الولادة. "مصر فيها أكبر عدد حضانات فى العالم، وفى نفس الوقت أكبر دولة فى عدد حالات الولادة القيصرية"، واعتبر أن "الحل ليس فى زيادة الحضانات إنّما خفض القيصرية وقصرها على الحالات الضرورية".
ردُّ عبد الغفار الذي قد يبدو منطقيًا لا يتسق مع سياسات الوزارة لخفض أعداد الولادة القيصرية حتى الآن، صحيح قررت الوزارة في الشهر الماضي عددًا من الإجراءات للحد من "القيصرية"، لكنها لم تدشن بعد حملة توعية للمواطنين أو الأطباء، ولم تضع وسيلة لتطبيق البند الأول في الإجراءات الذي يساوي أتعاب الأطباء في الولادة، سواء الطبيعية أو القيصرية، ولم يوضح الوزير سبل تنفيذه وإلزام الأطباء به ومراقبته.
وردًا على مطالب زيادة أجهزة الغسيل الكلوي، اتبع عبد الغفار الاستراتيجية نفسها، "أجهزة الغسيل الكلوى لا نستطيع التوسع فيها إلى ما لا نهاية، والحل خفض المشكلات التى تؤدي إلى هذه الحالة، الوزارة للأصحاء وليس للمرضى، ودورها رعاية المواطن لتجنب الوصول إلى المرض".
ولم يعلن عن خطط الوزارة للحد من الفشل الكلوي. في الوقت نفسه، اعتبر الوزير أن مصر لا تعاني نقصًا في أسرّة الرعاية المركز وكل ما في الأمر "سوء توزيع".
أما أزمة عجز الأطباء، فاعتبرها الوزير مشكلة عالمية في ظل العزوف عن الالتحاق بكليات الطب عالميًا، ومع صحة كلام عبد الغفار في بعض الدول كالمملكة المتحدة، لكن في مصر الوضع مختلف، إذ اكتفى عبد الغفار بشأن سياسات سد العجز بالإشارة إلى زيادة عدد كليات الطب نحو 25 كلية، والعمل على زيادة عدد الأطباء المكلفين، وبحث زيادة حوافز الأطباء.
كانت دراسة شارك إعدادها المجلس الأعلى للجامعات والمكتب الفني لوزير الصحة عام 2020، حذرت من تزايد أعداد الأطباء المصريين المهاجرين الذين يستقيلون من أعمالهم في قطاعات الحكومة ويغادرون مصر.
وكشفت الدراسة أن مصر لديها طبيب لكل 1162 مواطن، بينما المعدل العالمي طبقًا لمنظمة الصحة العالمية هو طبيب لكل 434 مواطن.
ويشكو الأطباء من تدني أجورهم بالإضافة إلى غياب التجهيزات الطبية اللازمة في مستشفيات وزارة الصحة.
فيما لم يتناول الفرق بين ما يستشهد به عالميًا من العزوف عن كليات الطب، وطبيعة الوضع في مصر، فوفقًا لتصريحات سابقة لأمين اتحاد المهن الطبية أبو بكر القاضي، فإن أعداد خريجي الطب "كافية"، وأعداد الأطباء المقيدين في النقابة 390 ألف طبيب، يعمل منهم في الحكومة 125 ألف فقط.
انتهت الجلسة العامة بقرار رئيس المجلس بإحالة رد وبيان وزير الصحة للجنة الشؤون الصحية لدراسته وإعداد تقرير بشأنه، بينما ردود عبد الغفار غير الدقيقة في بعض الأحيان وغير الصحيحة في أحايين أخرى، ترن في رأسي، وأتساءل متى تدرك الحكومة، ويفهم النواب أن الحل في إعادة ترتيب الأولويات؟