قبل أسابيع، أُفرِج عن شاب مصري اعتُقل في مراهقته بعد قضائه حكم السجن لعشر سنوات، بعد أن نُسبت إليه تهمة السفر إلى سوريا لمحاولة الانضمام لتنظيم داعش. ليقرر أحد المنتمين لمعسكر المعارضة طرح سؤال على السوشيال ميديا عن مدى صحة الاتهامات التي وجهت لهذا المعتقل تحديدًا، متذرعًا بكونه الآن خارج السجن بـ"أمان". حرك السؤال نقاشًا بين أفراد المجتمع المدني من محامين وحقوقيين وسياسيين معارضين في التعليقات؛ البعض يؤكد ارتكاب الشاب ما نُسب إليه، وبعضهم يتشكك، والبقية تنفي.
وُلِدت من هذا الخلاف أسئلة مهمة، ليس عن المعتقل السابق وقضيته، إنما عن أخلاقية إعادة محاكمته بهذه الطريقة؛ عندما نسعى للتوثّق والبحث عن معتقلين بذاتهم في سياق مصر، ما المسلك الذي لا يتسبب في أذىً لمظلوم أو حتى يسهم في التنكيل بمُدان قضى عقوبته، جاعلًا من بيننا مُيسِّرين لعنف الدولة ضد مواطنيها؟ وعلى امتداد الخط، كيف ندافع عن فلان وعلان الذين تنسب لهم تهم من تلك المخيفة؛ "داعش"، "السفر لسوريا"، "تنظيم مسلح"، إلخ؟ ما الخط الأخلاقي للتعاطي مع المتهمين بممارسة العنف في السياق المصري؟
الفضول البريء وحق المعرفة
لا يجهل أيُّنا أنه في السياق المصري قد تتسبب تساؤلات السوشيال ميديا عن أفراد بعينهم، في سجنهم والتنكيل بهم بل وإنهاء حياتهم في غمضة عين. من فتيات تيك توك للمدونين للنشطاء، ألم نشهد مرارًا وتكرارًا البطش الأمني كرد فعل غريزي من السلطة على أي زوبعة افتراضية؟ ألم نرَ عبثية وعشوائية اختيارات الأمن في من يخرج ومن يدخل ومن يُدَوَّر ومن يعود بعد الخروج ومن يُترك في الخارج؟ ما بالنا بشخص متهم بالسفر لسوريا ومحاولة الانضمام لداعش، خرج بعد إنهاء عشر سنوات من عمره سجينًا منذ كان مراهقًا؟ شخص في هذه الحالة إما أنه ظُلِم ظلمًا بشعًا على جريمة لم يقترفها كالآلاف مِمن في السجون، أو أنه مُجرم بالفعل، لو افترضنا جدلًا وجاهة الاتهام، قضى عقوبته كاملة.
من الصعب ألا يثير التساؤلُ العلني عن معتقل سابق توجُّسَ من يعلم السياقات، لمن يوجَّه السؤال؟ وما النتيجة المرجوة أو المتوقعة من إعادة المحاكمة العلنية هذه؟ ما سبب إذاعة السؤال في حين أن السعي للمعرفة متاح عبر قنوات أخرى، لن تُسبب أذىً لأحد؟
بعض من يمارسون هذا الأداء يمنعهم عمى أيديولوجي، ناتج عن موقفهم من التيارات الإسلامية، من رؤية أذاه، وبعضهم من نمط المعارضين المعروف في مصر بالحرص دومًا على إبقاء "رجل هنا ورجل هناك" مع النظام كمرجع نهائي، نختلف معه لكن نبقى تحت مظلته مهما ظَلَم ونكَّل، للحفاظ على خط رجعة وقت الحاجة. وبالطبع هناك من يسألون بحسن نية غافلين أو متغافلين عن الأذى اللاحق بمن يسألون عنهم.
يرد المدافعون عن السائلين بأن هؤلاء يسعون إلى "حق المعرفة". في الحقيقة، ليس بالجديد ولا المخترع، أن يتذرع أصحاب الأداءات المؤذية بستار الفضول البريء وافتعال الصدمة تجاه "مصادرة حقهم في المعرفة". يصر هذا النمط من الأذى على توجيه الجدال لتلك المساحة للإيحاء أن المعترض يرفض طرح الأسئلة والسعي للتحقق ابتداءً، لا الأداء المسرحي الذي تُطرح به الأسئلة، مع شخصنتها في معتقلين بعينهم، وهم يحذرون من تداعيات هذا الأداء، الذي لا يُعدُّ نقده من حيث المبدأ اختراعًا.
فمثلًا؛ المواطن الأبيض في العالم الغربي يفعل ذلك أيضًا تجاه مواطني الجنوب العالمي. نفس التساؤلات البريئة الراغبة في "التعلم" بشكل علني عن ثقافة وعادات المجتمعات العربية، بدهشة ظاهرها الفضول لكن جوهرها هو قياس الطبيعية والغرابة على الثقافة الغربية باعتبارها مرجعية التحضر.
هنا يُحشر الطرف العربي الذي يتلقَّى الأسئلة في خانة تبرير ثقافته والتعاطي مع نقطة الانطلاق التي تحتقرها ابتداءً، ليكون الأثر المباشر وضع إنسانية الآخر محل تساؤل أو إجباره على تحمل عبء شرح لماذا هو إنسان مساوٍ أيضًا للمتسبب الرئيس في وضعه في هذا المربع من الأساس.
عندما تطأ قدمك أهوال هذا العالم تودع ما عداه
وجه التشابه هنا، مع اختلاف مضمون التساؤل وعواقبه، هو أن هوية كلٍّ من السائل والمسؤول، وجمهور السؤال، وسياقه الاجتماعي والسياسي، أشياء تفوق أهمية وتأثير السؤال نفسه.
ليس بالضرورة أن يكون المتسائل دومًا مسؤولًا مباشرًا عن الظلم الذي وقع على الطرف الآخر، فجريدة مثل نيويورك تايمز مثلًا لا تسقط القنابل بنفسها على الفلسطينيين في غزة، لكنها عندما تطرح الأسئلة عن وجود دروع بشرية، أو أنفاق تحت مستشفى، أو أطفال مقطوعة الرؤوس، يكون الناتج المباشر هو خلق مزاج يقبل بمستشفيات مفجرة وأطفال مبتوري الأطراف وجثث مهشمة تحت الركام، حتى لو ثبت كذب هذه المزاعم في نهاية المطاف.
لسنا ملزمين بحمل مسؤولية جرائم المؤسسات، نعم، ولنا حق السعي للمعرفة بالتأكيد، لكننا حتمًا مسؤولون عن اختيار أدائنا ونحن نطارد المعرفة، خاصة وأننا واعون لسياقات القوى التي نسعى تحتها للمعلومة، وللعواقب المباشرة لاختيارنا على الأطراف المسحوقة في هذه السياقات.
الفكر الداعشي في السياق المصري
يأخذنا هذا للسؤال الجوهري، ما هي هذه السياقات المصرية فيما يتعلق بالمتهمين بالانتماء فكريًا إلى داعش وغيرها؟
نعم، هناك مصريون يعتنقون الفكر التكفيري؛ بعضهم بسبب بشاعة الظلم الذي اختبره وشهد عليه، وبعضهم من إيمان أصولي لم ينشأ بسبب الظلم. داخل تلك المجموعة، هناك أغلبية اقتصر أمرها على التدوين أو متابعة صفحات متطرفة ولم تترجم قناعاتها إلى أفعال، وهناك قلة نسبية مارست العنف بالفعل ضد مدنيين، كمن زرعوا قنابل عند دار القضاء العالي أودت بحياة المارة، وغيرهم.
أتذكر تلك الواقعة تحديدًا لأني قرأت عنها عام 2015 في جريدة الأخبار وأنا داخل زنزانتي بسجن وادي النطرون مرتعبًا، لأن أمي كانت تذهب إلى ذلك المبنى لاستخراج تصريح الزيارة لتراني. وارتعدت لما تخيلت وجهها داميًا خاويًا مكان المارين الذين قتلتهم القنبلة.
لست في الحقيقة مختلفًا مع جوهر الموقف المركب من معتقلي التيارات التكفيرية في المطالبة بمحاكمات عادلة بلا تعذيب مع الاحتفاظ بالموقف الفكري المعادي لمعتنقي الفكر بالفعل، وحتمًا محاسبة من ارتكب فعلًا إرهابيًا راح ضحيته أبرياء.
لكنَّ اختزال الأمر في هذين السطرين شديد البساطة مخل وكسول، لأن كل كلمة فيهما تتطلب اشتباكًا موسعًا ونقاشًا عن تعريف "الإرهاب" وهوية معرفيه، ثم آلية تحديد معتنقيه بالفعل بلا تجنيد للمصطلح في تلفيق وافتراء وظلم، ثم كيفية التمييز بين من ترجم الفكر إلى جريمة لا رجعة منها ومن لم يتخط الكلام، ثم هيئة ما يعتبر بمحاكمة عادلة، ومن يجلس في مجلس القاضي في محاكمة كهذه.
في الغالب، عند حدوث حادث عنف أو حتى مجرد رصد تدوينات متطرفة، تُفتح قضية أمن دولة عليا تمتلئ بعشرات، إن لم يكن مئات، المتهمين كلهم مشتبه بهم. أعضاء القضية مزيج من كل من هو على رادار الأمن كتيار إسلامي في المنطقة، على معلومات بعض المرشدين، على اعترافات تحت تعذيب للإدلاء بأسماء أخرى، فوقهم كل من لامس هذه الأسماء بمكالمة أو تعامل سطحي فقاده سوء الحظ أن يرصد اسمه.
ولأننا في مصر، حيث الخارج مولود والداخل مفقود، لا يقتصر الأمر على تحديد المرتكب ورفع الظلم عن الباقين ممن لا ناقة لهم ولا جمل. لأنك عندما تطأ قدمك أهوال هذا العالم، تودع ما عداه.
تحولات المعتقل
شهدت بنفسي على مدار عامين تحولًا دراميًا لأحد الأصدقاء من حركة 6 أبريل لداعش ثم العودة مرة أخرى. كنت ألقاه كل فصل دراسي في فترة الامتحانات في استقبال طرة، شاب عشريني عرفته كـ"مصطفى بتاع 6 أبريل"، ثم التقيت به بعد أعوام بلحية طويلة وشعر مسدل، يصلي وحيدًا لاقتناعه بكفر زملائه ويبشر بتنظيم الدولة الإسلامية بعد أن "هداه الله" على يد بعض أصحاب الفكر التكفيري بسجنه الأصلي ممن خاطبوا سخطه وحميته وأعطوها متنفسًا.
أتذكر رعبي أنا وبعض الأصدقاء من تحول مصطفى، ونقاشاتنا ليلًا عما يمكن أن يحدث للإنسان تحت وطأة الظلم. في العام الثالث، عاد مصطفى كما عهدناه أول معرفتنا به. كان يتحدث برعشة في صوته، ويصف حاله العام الماضي بين متبني فكر داعش كمن يتذكر فترة سُكرٍ مهزوزة يشهد نفسه فيها كالمتفرج على فيلم من الأعلى.
المجرم وراء كل جريمة إرهاب هو من يكدس آلاف المظلومين داخل نفس الزنازين
قصة مصطفى ليست الوحيدة، فالحقيقة أن الذريعة الأولى لإلغاء برامج العفو الرئاسي التي يتحجج بها الأمن أنها قد تتسبب في خروج بعض المتطرفين، ويستند دومًا في ذلك إلى قصة محمود شفيق، الشاب الصغير، الذي لم يتجاوز عمره 22 عامًا، والمولود في محافظة الفيوم جنوب القاهرة، منفذ تفجير الكنيسة البطرسية بالعباسية في 2016.
كان محمود معتقلًا بعد أحداث 3 يوليو 2013، وتم إخلاء سبيله في مايو/أيار 2014، وطبقًا لتحقيق أريج ومدى مصر، كانت تجربة الاعتقال هي النقطة الفاصلة في طريق إيمانه بالأفكار التكفيرية بعد احتكاكه ببعض المتطرفين في السجن المتكدس وفق شهادة من عايشوه من سجناء سابقين.
ليس الغرض هنا إثارة التعاطف مع مرتكب جريمة بشعة كتلك، لأن التعاطف والألم هنا أهله الضحايا والأسر الذين قُتِلوا غدرًا أو فقدوا أحباءهم. ما يهمنا هنا هو فهم جذور تلك التحولات، وأن التذرع بها لتجنب الإفراج عن المعتقلين محض عبث، فالتحول حتى في حالة محمود شفيق كان بسبب الاعتقال وظروفه، ولم يحدث قبله.
المجرم الأعلى وراء كل جريمة إرهاب شبيهة هو مهندس ومالئ تلك المفرخة، من يضع آلاف المظلومين المقهورين مكدسين داخل نفس الزنازين ولو مع مجرد فرد واحد معتنق لتلك الأفكار عن عقيدة وإيمان، حريصًا على استمرار تلك الماكينة بنفس التنكيل والقسوة والظروف، بل في بعض الأوقات يضع من يريد تأديبهم من المعتقلين في عنابر "الدواعش" كنوع من العقوبة.
بين ستين ألف معتقل، معتقلو هذه التيارات نسبة قليلة، وموقفهم من عموم المعتقلين، وخصوصًا معتقلي الإخوان المسلمين الذين تكفرهم داعش، موقف معادٍ عنيف تفاقم إلى عراكات شديدة شهدت بنفسي إحداها في سجن استقبال طرة عام 2016.
فبعد خلاف مسائي على نظارات الأبواب بين داعش والإخوان، تصاعد الأمر في الصباح التالي بتكسير معتقلي داعش ريش مراوح السقف بزنازينهم ومهاجمة معتقلي الإخوان بها أثناء التريض، قبل أن يفصل الأمن بينهم، فيما عرف كوميديًّا بين عموم المعتقلين بـ"غزوة المراوح".
أؤكد هذا لئلَّا يُفهَم الإقرار بوجود أصحاب هذا الفكر في المعتقلات أنه تلميح بغزارة عددهم أو غلبتهم، فهذا تضليل لا علاقة له بالواقع داخل السجون غرضه تعزيز سردية تؤذي عشرات الآلاف من المظلومين.
دعنا إذًا نأتي للكتلة الصغيرة نسبيًا، بالقياس للعدد الكلي من المعتقلين، ممن اعتنقوا تلك الأفكار وترجموها لعنف بالفعل لتعتقلهم السلطة. لو، جدلًا، مارس واحد من كل ألفي معتقل عنفًا كهذا، فالدولة ترى أن حبس الـ1999 الآخرين ثمن مقبول تمامًا لضمان وجود هذا العنيف وراء القضبان. وهذا غير مستغرب من دولة لا تحتاج حتى حجة العنف لتحبس عشرات الآلاف بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية وعملهم الصحفي والحقوقي وغيرهم. إنما الكارثة في ميل عموم الناس، بل وكثير من الحقوقيين والمعارضين، لتفهُّم وقبول هذا الظلم الفج وتبريره.
كان هذا جليًا عندما بدأت قوائم العفو الرئاسي في الصدور عن المحكومين للمرة الأولى في عام 2016 بعد مؤتمر الشباب الأول بشرم الشيخ، واستمرت لعام 2018، خرج فيها ما يقارب الألفي سجين سياسي من المحكومين بأحكام تصل للمؤبد، قبل أن تتباطأ ثم تتوقف تمامًا. كلما ثارت المطالبة بعودة العفو، نسمع سردية موقف الأمن الصعب وثقل المسؤولية لاختيار المعفي عنهم لئلَّا يتكرر موقف محمود شفيق.
توحي السردية والتعاطف معها بأن دخول آلاف الأبرياء مع كل ذي فكر متطرف هو ذنبهم لا ذنب الأمن، وخروج المتطرف أيضًا في رقبة المظلومين يدفعون ثمنه من أعمارهم، وبالتالي فبقاء عشرات الآلاف المظلومين في السجن مفهوم ومقبول، كي لا نخاطر بخروج متطرف قد يرتكب جريمة عنف ربما تشرَّب دوافعها داخل جدران السجن من الأساس بعد اعتقاله.
من القاضي؟
السؤال الأهم والعائق الأكبر نحو اشتباك فكري وعملي حقيقي مع هذا الملف، والذي يتفاداه الكثيرون عند المطالبة بمحاكمات عادلة، هل هذا النظام الذي هو أكبر منتج للعنف ضد المدنيين خارج إطار القانون حكم عادل من الأساس؟ تلك المنظومة التي تقتل متظاهرات حاملات للورد كشيماء الصباغ، وتصفِّي المشتبهين في الشقق والشوارع بلا محاكمة، وتعدم السجناء خنقًا وحرقًا بالغاز في عربة ترحيلات أبو زعبل، وتختطف الآلاف من بيوتهم قبل الفجر وتدفنهم تحت أراضي مقرات أمن الدولة ليدخلوا في عداد المختفين قسريًا؟
وعندما يحالفك الحظ بدخول اعتقالك تحت إطار "القانون" فأنت أمام محاكم إرهاب صممها القانون خصيصًا لتصدر أحكامًا فلكية ككل معتقلي المظاهرات بعد 2013، إما تدوير لا ينتهي كلما خرجت من قضية دخلت الأخرى ككل معتقلي محافظة الشرقية، أو نسخ لنفس القضية عدة مرات لتحاكم على واحدة وتحبس احتياطيًا على الأخرى بعد انتهاء حكمك كعلاء عبد الفتاح وعبد المنعم أبو الفتوح وهدى عبد المنعم، وغيرها من الالتفافات التي لا تنتهي، جاعلة حتى المحاكمة بالقانون أكبر أداة لكسره وجعله خرقة بلا معنى.
نجد نفسنا أمام معضلة تفكيك مصطلح الإرهاب وتوخي الحذر عند استخدامه، فما الطريقة المثلى للتعامل مع مصطلح صمم ليستثني عنف الزي الميري الذي أسقط أضعاف ضحايا العنف الأصولي بالفعل حرقًا ورصاصًا وذبحًا وتعذيبًا وإخفاءً قسريًا حتى الموت؟
لِمَ لا نوجه أسئلتنا إلى المسؤول الحقيقي عن كل هذه المنظومة؟ كيف نحمّل ذنب العنف على المظلومين الذين لم يختاروا السجن ولا جيرانهم فيه، بل دفنوا في دهاليزه على يد نفس ماكينة ظلمه الأعمى؟ بأي عقل يكون العنف المحتمل مبررًا لاستمرار العنف الواقع بالفعل؟
أتفق أن ملف التطرف الديني، خصوصًا الذي يترجم معتنقوه أصوليتهم إلى ممارسات عنيفة تجاه أبناء مجتمعاتهم، هو ملف في قمة الأهمية والعجلة. ما أطرحه هو أنه لا طريقة أخلاقية اليوم للاشتباك مع ملف الإرهاب دون تحريره بوضوح والاشتباك مع الإطار السياسي الذي ينشأ فيه ومنظومة الاحتكام التي تزعم التصدي له.
ولأنه لا مجال للاشتباك مع هذا الإطار السياسي بدون الانضمام لعشرات الآلاف من "الإرهابيين" المعتقلين، نظل محرومين في مصر من أي مساحة أخلاقية للاشتباك مع هذا الملف بشكل لا يحتوي على هامش مقبول من الظلم نفاوض فقط على تقليصه وزحزحة شروطه.
إعاقة مواجهة هذا الملف كما يستلزم ليست ذنبنا ولا ذنب المعتقلين، بل مفروضة علينا من السياق الحاكم الذي يفوقه عنفًا وتنكيلًا ويحرمنا من جهة تكون أهل احتكام، وآليات تضمن العدالة، واشتباك بلا سجن لنا شخصيًا. لذا عندما نطرح أسئلة "بريئة" ونمارس "حق المعرفة" حول معتقلين سابقين بعينهم، يصير واجبًا أخلاقيًا علينا أن يغذي أداءَنا وآلياتِ بحثنا الوعيُ العميق بتفاصيل هذا السياق وتداعياتها على الأطراف المسحوقة.
وحتى يجد في الأمور أمور؛ الحرية للمعتقلين، كل المعتقلين.