صك سيد قطب مصطلح "العزلة الشعورية"، قاصدًا به وجود "مفاصلة وجدانية" بين طليعة اجتماعية ودينية يسميها "العصبة المؤمنة"، يرى أنها من تمثل الإسلام أو تعمل على استعادة أثر "الجيل الرباني" الذي كان في صدر الدعوة، وسائر أفراد المجتمع الذي يعتبره يعيش في "جاهلية جديدة"، صاغ أخوه محمد قطب تصورًا موسعًا عنها وهو يُفصِّل في شرح ما أسماها جاهلية القرن العشرين.
اليوم قد يطفو على السطح جدل واسع حول المصطلح، أو يستعاد مع نقاش حول ما إذا كان الإخوان لا يزالون يؤمنون به في ظل تطورات إقليمية أعادت إلى الواجهة رهانًا لدى البعض على "الإسلام السياسي"، ومخاوفَ لدى آخرين مما حدث في سوريا، أو عطفًا على إعلان السلطات المصرية رفع أسماء أكثر من 700 شخص من على قوائم الإرهاب. وحتى لو لم يتجادل الناس ويتشاكلون حول المصطلح بشكل لفظي ظاهر، فإن معناه وتأويلاته ستسكن السجالات الدائرة من دون شك.
ففي كتابه معالم في الطريق يقول سيد قطب؛ "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدَّ الضغط علينا. حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحب منهم نفسًا، أو أذكى منهم عقلًا، لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة".
ثم يمضي متابعًا "إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطأهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأنّنا أعلى منهم أفقًا. إنّ التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية".
أفضل.. أسمى.. أذكى
ولد المصطلح في سياق صراع سياسي مرير بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. ولذا كان من الطبيعي أن تتسرب إليه حمولات هذا السياق المشبع بالغبن والرغبة في الانتقام والعتب على المجتمع الذي يتهمه الإخوان بأنه لم يفزع لما لحق بهم من سجن ومطاردة بعد صدامهم مع السلطة، جنبًا إلى جنب، مع الاضطرار إلى التمركز حول الذات لحمايتها من الذوبان، والتمسك بما في الرؤوس والنفوس كحائط صد في وجه الخصوم، ومداراة الناس، ومجاراة الواقع والتظاهر بقبوله، اتقاءً للأذى.
جعلت العزلة الشعورية أتباع الإخوان في ولاء لقيادتها وفي براء من الذين يخالفونهم
يبقى الاعتزال هنا مقتصرًا على الوعي والشعور، فلا تماهٍ مع السائد من أفكار وتصورات وتقاليد وأعراف وقوانين، ولا انخراط في أشكال التدين الموجودة، سواء كانت شعبية أو وفق النهج الذي ترتضيه السلطة أو تطرحه المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية غير الإخوانية. أو كما قال قطب "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء" من تصوراتها وأوضاعها وتقاليدها.
لكن هذه القطيعة النفسية لا تمنع الانخراط جسديًا في المجتمع، لأنه يمثل ساحة الدعوة بالنسبة لهذه "العصبة المؤمنة" المتخيلة أو المتوهمة، تستخدم أو توظف ما فيه من قدرات وموارد بشرية ومادية كقوة دافعة في خدمة فكرتها وأهدافها بعيدة المدى، المتمثلة في تحويل "المجتمع الجاهلي" وفق تصورها إلى "مجتمع إسلامي" من جديد، وحسب أيديولوجيتها، تحت زعم انقطاع الأمة عن دينها وتاريخها، ما يقتضي العمل على إنشاءٍ جديدٍ للدين.
ورغم أن هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق كاملة في المجتمع، لتناقضها مع الطبيعة البشرية النازعة إلى اجتماع لا يمكن أن يخلو تمامًا من مشاعر، ومخالفتها كذلك لكثير من تعاليم الإسلام، فإنها لعبت أدوارًا ملموسة لدى أتباع التيار القطبي في جماعة الإخوان المسلمين، منها ممارسة لون من "الاستعلاء"، الذي يستشف من تحليل مقولات تتابعت على مدار عمر الجماعة كلها تبين أن أتباعها يعتبرون أنفسهم "الأرقى" و"الأسمى" و"الأنقى" و"أكثر من يمثل الإسلام"، بل عند بعضهم فَهُمُ "الممثل الحصري له".
خدمت الفكرة أيضًا نزوع الإخوان إلى التقية، أو المداراة والمواراة، التي يرونها سياج حماية لهم في وجه من يستهدفونهم، لا سيما الشق السري في نشاطهم السياسي أو وقت لجوئهم إلى العنف. كما مثلت رابطة عاطفية بينهم، رغم أنها لا تخلو من أوهامٍ، ودفعتهم إلى الحرص على استقطاب عناصر اجتماعية متميزة يتم تجنيدها من بين النابهين والمُمَكَّنين في الجامعات والمجتمع، لخدمة تصورها عن التميُّز عن الآخرين.
ولا يمكن أيضًا فصل الفكرة عن خدمة التنظيم وتعبئته في سبيل تحقيق هدفه، فسيد قطب أوعز لأعضاء الإخوان بأنهم المصطفون الأخيار البررة، الأسمى نفوسًا، والأذكى عقولًا، والأمضى عزمًا، والأرسخ في تصديق أن النصرَ المنشودَ حتميٌّ. والأهم أنهم هم المؤمنون بحق، السائرون على الطريق المستقيم، والممثلون الحصريون للإسلام. وهو في هذا كان يعيد، بصياغة أخرى، تصور حسن البنا مؤسس الجماعة حين خاطب أعضاءها؛ "أنتم صحابة رسول الله، ولا فخر، وحملة لوائه من بعده".
هنا، يصبح غير الإخوان في نظر المؤمنين بفكرة "العزلة الشعورية" ليسوا على شيء يذكر، أو شيء ذي بال. ويكون على الإخوان الاعتزاز بما لديهم، والتمسك به، والإخلاص له، والرغبة في جذب الآخرين إليه، من بين هؤلاء المتخبطين في عمائهم وغبائهم ورذائلهم في ظل الجاهلية الجديدة، حسب تصور سيد قطب.
كما جعلت فكرة العزلة الشعورية أتباع الجماعة في ولاء وتأييد لقيادتها وأفكارها، وفي براء من كل الذين يخالفونهم الرأي والتوجه، وهي مسألة كانت مهمة بالنسبة للتنظيم، الذي تعلو مصلحته على ما عداها، حتى أصبح البعض يطلق عليه "البقرة المقدسة"، التي صار استمرارها، بأي شكل، هو غاية في حد ذاتها، وصارت فكرة "أُخوُّة التنظيم" تسبق أي شيء آخر.
تحولت هذه العزلة عند البعض من مجال الشعور إلى مجال الحس ومن المعنوي إلى المادي
لكن الفكرة في الوقت نفسه تسببت في إحداث جرح أخلاقي في تصرفات أتباع الجماعة، فالشعور بالاصطفاء أو التميز عن الآخرين، أو استبعاد نفوسهم ومشاعرهم دون أجسادهم، كان من الطبيعي أن يؤدي إلى استمراء خداع كل من لا ينتمي للجماعة والاستهانة به، وفقدان قدر من "الإحساس المشترك" الذي يصهر الجماعة الوطنية أو أغلبها في التفاعل الخلاق والإيجابي مع القضايا العامة، ومع الهموم الجماعية.
وإمعان النظر في رؤية قطب تُبيِّن أن "العزلة الشعورية" تنبع من شعور بالتفوق، لا وفق تقسيم بيولوجي يقسم الناس إلى أعراق أعلى وأدنى حسب ادعاء سمات جسدية وعقلية متفوقة، مثلما فعلت النازية، إنما على أساس عقائدي. وبينما تحدد الجينات الهوية القومية العرقية لدى النازيين، يحدد الإيمان هوية المنتمي للعصبة المؤمنة. غير أن الرؤيتين تشتركان في تحديد قيمة الإنسان لا حسب شخصيته الفردية إنما عضويته في مجموعة ما؛ "الجماعة" بالنسبة لسيد قطب، و"الآريون" بالنسبة للنازية.
التواء المبررات
لكن هناك اختلافًا هائلًا بالقطع بين النتائج المترتبة على كل من الفكرتين؛ فبينما ارتُكبت فظائع باسم النازية، كان إسهام فكرة العزلة الشعورية في الانزلاق إلى العنف هامشيًا عند الإخوان، قياسًا إلى أسباب أخرى، ومنها الاعتقاد في نجاعة التصرف الخشن أو الدموي في إحراز التقدم نحو السلطة السياسية، أو تلبية الرغبة في الانتقام، لتظل مثل هذه العزلة مسألة افتراضية محل خلاف داخل جماعة الإخوان نفسها.
فهناك من رآها محاصرة للذات، أو طريقًا إلى إصابة بعض الأفراد بالبارانويا أو المخاوف والوساوس القهرية، وأدرك أن المقاطعة تُنزل الضرر بالطرف الأضعف ماديًا والأقل عددًا. وهناك من وضعها خلف ظهره لأن من شأنها إلحاق عوار أخلاقي بصاحبها، من قبيل النفاق والخداع والتبلد الإدراكي حيال أفراح الآخرين وأتراحهم، ما يؤثر سلبيًا على قيمة إسلامية مركزية وهي "الرحمة"، التي تدور حولها الرسالة.
ويوجد في فضاء التيار السياسي الإسلامي من قال إن حديث سيد قطب عن "العزلة الشعورية" قد أسيء فهمه، أو فُهِمَ بطريقة معكوسة، فهو أراد به أساسًا شعور المسلم بالتميز حين يحيا في مجتمع لا يطبق قواعد الإسلام في بعض الجوانب، أو يكون مجتمعًا غير مسلم بالكلية، باعتبار هذا نوعًا من الاعتزاز بالهوية الدينية، والتمسك بالعقيدة، والالتزام بالتعاليم، يُحصن الفرد من الذوبان والتماهي والتطبع مع أفكار وتقاليد مغايرة لما ينبغي له أن يؤمن به، أو يمتثل له وفق مقتضيات شريعته.
ويعزو أصحاب هذا الرأي تشويه فكرة "العزلة الشعورية" إلى المغالاة أو التشدد من بعض الإسلاميين الذين حسبوها قطيعة للناس، وابتعادًا عنهم، وكراهية لهم، وتعبئة نفسية ضدهم، تمهد لقتالهم أو إقصائهم، دون أدنى اعتبار لأوضاعهم كأفراد داخل السياق الاجتماعي، وفي ظل نكران طبيعة المجتمع ومؤسساته، ودون تفرقة بين وقوع المجتمعات في مخالفات أو أخطاء أو آثام وبين الكفر البواح والردة.
ويوجد من يعطي تبريرًا ملتويًا لفكرة سيد قطب بالحديث عن عزلة بديلة، أو مضادة، تقوم على الانفكاك عن الدين وليس الارتباط به، مثلما يفعل بعض الشباب في المجتمعات الإسلامية الحالية، أو تلك المحاولات التي تريد فصل الأمة الإسلامية عن تاريخها، وإبعادها عن مصدر حياتها ومقوماتها، ويستخدم فيها التعليم والإعلام، أو العزلة الجزئية المتمثلة في دفع المسلمين إلى أخذ طرف من العلم والمعرفة والدعوة والجهاد، ونسيان البقية، وأخيرًا العزلة الناجمة عن صراع نفسي يشتعل بين إحساس الفرد بواجبه حيال نفسه، وواجبه حيال أمته.
لكن محاولة التخفيف هذه لم تمنع من وقوع الأفدح، حين تحولت هذه العزلة عند البعض من مجال الشعور إلى مجال الحس، ومن عالم المعنويات إلى عالم الماديات، فراحت بعض التنظيمات المتشددة، سواء خرجت من عباءة جماعة الإخوان المسلمين أم لا، تقاطع المجتمع وتهجره، بدعوى أنه مجتمع جاهلي، حتى إنها قاطعت مساجد يصلي فيها المسلمون لأنها في نظرهم مساجد ضرار، وتطور الأمر إلى مقاطعة تقلد الوظائف بمؤسسات الدولة، لأن عملها، من وجهة نظرهم، ليس في خدمة الإسلام، ورواتبها حرام، والأفدح من هذا هو استحلال أموال الآخرين وأعراضهم.