مصعب شاور بإذن خاصة للمنصة
مدخل قرية بيت عينون جنوب الضفة الغربية، 12 ديسمبر 2024

حواجز وبوابات وأبراج.. الضفة مغلقة ومفاتيحها بيد الإسرائيلي

فصل ممنهج.. للسيطرة على الأرض عبر منظومة الإغلاق الشامل

منشور الاثنين 30 ديسمبر 2024

تُدير الفلسطينية رنا سمير روضةً صغيرةً للأطفال في بلدة إذنا غرب الخليل، جنوب الضفة الغربية، لكنها لا تستطيع الوصول إليها باستمرار، فإسرائيل تطبقُ حصارها، عبر بوابتين وبرج عسكري، على الحي الذي تعيش فيه هي وعائلتها.

تقطن صاحبة الـ38 عامًا حي اللّية، المغلق على نفسه من الشمال والجنوب؛ تفصل البوابة الأولى الحي عن بلدة ترقوميا شمالًا، أما البوابة الثانية فتعزله عن بلدة إذنا جنوبًا، بينما يتمركز على بعد أمتار من بيتها برج عسكري إسرائيلي دائم ويقع طريق التفافي أصبح بحكم الأمر الواقع شبه مخصص للمستوطنين فقط بعد إغلاق باقي الطرق في وجه الفلسطينيين.

تقول رنا لـ المنصة "لما بدنا نروح عالشغل كتير مرات بيرجعونا"، إذ يتحكم جنود الاحتلال المتمركزون بالبوابتين في حركتها هي وقاطني الحي؛ يمنعونهم من المرور تارةً ويسمحون لهم أخرى، وفي مرات قد يسمحون بالدخول لكن يمنعونهم من العودة إلى البيت، وأحيانًا يحرمون الأطفال الذين يدرسون في مدارس البلدة من العبور.

حظر تجوال طوعي 

بهذا تعيش رنا وعائلتها وكل سكان حي "اللّية"، الذين يقدر عددهم بنحو 200 فرد، حظر تجوال طوعيًا، إذ لا يملكون رفاهية اختيار مواعيد ذهابهم أو إيابهم من البلدة وإليها؛ لا يمتلكون قرار الموافقة على حضور مناسبة اجتماعية تتعلق بالفرح أو الحزن، فكل ذلك غير ذي جدوى بالنسبة للجنود الإسرائيليين المسيطرين على الحواجز والبوابات.

ولا تقل معاناة رنا وعائلتها ليلًا عن نهارهم، فمنزلهم ملاصق للطريق الالتفافي ما زاد من مخاوفهم من اعتداءات المستوطنين وهجماتهم "من يوم الحرب وإحنا بنخاف، وحتى ننطر ونتناوب على سطح البيت طول الليل". هذه المخاوف تزداد يومًا بعد يوم في ظل حصار مطبق على الحي.

بوابة مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، 12 ديسمبر 2024

منذ السابع من أكتوبر يشن الاحتلال حربًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما جعل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية مناطق معزولة عبر بوابات حديدية وسواتر ترابية وحواجز عسكرية طيارة مؤقتة أو دائمة في غالب الأحيان.

وفق المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، فإن إسرائيل فرضت إغلاقًا شاملًا على الضفة الغربية بدءًا من عام 1991، لكنها بدأت بتنفيذه بشكل ملموس في 1993. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى 2000-2004 تطورت البنية التحتية والبيروقراطية للاحتلال الإسرائيلي لتصبح قائمة بشكل أساسي على منظومتين معقدتين تهدفان إلى إحكام السيطرة على الفلسطينيين، هما منظومة التصاريح/المرور ومنظومة الحواجز.

وحسب هيئة شؤون مقاومة الجدار والاستيطان، بلغ عدد الحواجز الإسرائيلية في الضفة 872 منها أكثر من 156 بوابة حديدية أُقيمت بعد أحداث السابع من أكتوبر، حوّلت حياة السكان إلى جحيم، ومنهم وسيم معلا صاحب الـ27 عامًا من بلدة بيتا، التي تبعد 13 كيلومترًا جنوب شرق مدينة نابلس.

يقول لـ المنصة "الحواجز أثرت عليّ كتير لدرجة كل مرة توصل معي أنه أقدم استقالتي"، فهو يقضي غالبية يومه عند الحواجز ويتعرض للتفتيش والتوقيف ويتأخر ساعات أثناء التوجه إلى عمله، وأخرى في رحلة العودة إلى منزله.

الحواجز أثّرت على الصناعة والاستثمار بزيادة تكاليف ووقت النقل

يضيف "أنا بواجه 3 حواجز ثابتة خلال المسافة القصيرة بين بيتا ونابلس، وكمان في بينها حواجز طيارة، بندم وقتها ليش روحت؟!". ومع تفاقم هذا الوضع اضطر وسيم لاستئجار سكن في نابلس ليتمكن من الاحتفاظ بعمله، رغم التكلفة العالية، هذا ليس حاله فحسب بل حال آلاف المواطنين الذين يعملون في مناطق خارج الأحياء التي يقطنون بها، وهم بذلك أكثر حظًا من الكثيرين الذين يخسرون وظائفهم وأعمالهم لعدم قدرتهم على توفير سكن بديل.

يقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي الفلسطيني طارق الحاج لـ المنصة إن الحواجز أثّرت بشكل كبير على توطين العمالة الفلسطينية وتركزها في المدن بسبب معوقات التنقل بين المحافظات الفلسطينية. ففي الماضي، كانت الأيدي العاملة والموظفون في القطاعين العام والخاص ينتقلون بسهولة من مسقط رأسهم إلى مكان عملهم. أما الآن، فقد أصبح هذا أمرًا مستحيلًا، مما أدى إلى تفريق المناطق الفلسطينية والعائلات، ونتيجة لذلك زادت الضغوط على الخدمات المقدمة للمواطنين في المدن التي يزداد الانتقال إليها، سواءً من شركة الكهرباء أو المياه أو البلديات، وغيرها.

ويضيف "الحواجز أثرت أيضًا على قطاعات الإنتاج والصناعة والاستثمار، من خلال زيادة تكاليف ووقت النقل، مما انعكس بشكل مباشر على أسعار السلع والمنتجات في الضفة الغربية. وقد زاد ذلك من العبء المادي على المواطن الفلسطيني. كما أن القيود المفروضة على التنقل أدت إلى تلف العديد من السلع وتكبيد التجار والمستثمرين الفلسطينيين خسائر فادحة".

ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ارتفع معدل البطالة بين المشاركين في القوى العاملة من الفلسطينيين في سن 15 عامًا فأكثر إلى حوالي 31% في الربع الثاني من عام 2024، بزيادة 5% خلال عام. 

طوابير انتظار الفرج 

اعتاد سكان الضفة الغربية، الذين يقدَّر عددهم بنحو 3.25 مليون نسمة حتى عام 2023، على العيش تحت الحصار الإسرائيلي الخانق؛ تمتد الحواجز والبوابات في الضفة الغربية من محافظة الخليل جنوبًا حتى جنين شمالًا، ويضطر الفلسطينيون للمرور خلالها عبر طرق رئيسية التفافية تمتد إلى طرق داخلية تقطعها حواجز رئيسية منها الكونتنير، وبيت إيل، وزعترة، وعنبتا، والبقعة، والحمرا.

تحت ضغوط سياسة الإغلاق الشامل باستخدام الحواجز ونقاط التفتيش، تغيَّر وجه الحياة في الضفة الغربية بكل تفاصيلها، فبعد أن كان شريان الحياة يتدفق من جنوبها حتى شمالها بانسيابية كبيرة، رغم الحواجز والبوابات قبل الحرب، أصبحت كل محافظة أو مدينة وحدة مقطوعة عن غيرها.

ودفعت التضييقات الإسرائيلية العديد من المواطنين لاختيار العزلة وعزفوا عن الانتقال بين المحافظات والمدن الفلسطينية واضطروا للاستقرار في مكان واحد والانقطاع عن زيارة عائلاتهم وذويهم بالقرى التي ينحدرون منها تجنبًا للتعرض لنقاط التفتيش والحواجز. ولا تتعلق الأزمة بسكان الضفة فحسب، بل تنسحب على باقي الفلسطينيين خلال تنقلهم، بالأخص من يقطنون بمحاذاة المستوطنات التي يبلغ عددها 199 مستوطنة و260 بؤرة استيطانية على طول الطرق التي تربط بين محافظات الضفة.

انتهاكات وتنكيل 

ساعات الانتظار الطويلة على الحواجز تتخللها ممارسات للتنكيل بالفلسطينيين، فيروي السائق يسري الرجوب، 61 سنة، من سكان مدينة الخليل، لـ المنصة أنه في إحدى مرات عبوره أحد الحواجز رفقة فلسطينيين آخرين، أمره جندي إسرائيلي بإطفاء سيارته وإعطائه المفتاح، ثم وضع الجندي المفتاح فوق السيارة وتحداهم "الزلمة فيكم يوخذ المفتاح"، لحسن الحظ لم يزد زمن تعنت الجندي على الساعة ثم أفرج عنهم.

واختلفت الطرق والمسافات التي يسلكها الفلسطينيون، فالوجهة التي كانت تبعد 5 كيلومترات ويستغرق الوصول إليها دقائق معدودة، استطالت مع الطرق الثانوية لتبتعد نحو 30 كيلومترًا وأصبح الوصول إليها يستغرق ساعات.

ومن ضمن ما يؤرق الفلسطيني على الحاجز ازدواجية المعايير والأوامر التي يصدرها الجنود الإسرائيليون، فبينما يسمح لهم جندي بالمرور من حاجز إلى الذي يليه، فإن جنديًا آخر في الحاجز التالي يوقفهم ويسألهم عمن سمح لهم بالمرور، هذا بالضبط ما حدث مع السائق يوسف بسيوني، من نابلس، الذي طالما تردد بين أوامر الجنود على الحواجز ما بين مُر وتوقف، حتى أنهم ذات مرة صوبوا فوهة البندقية على رأسه لعدم التزامه بأوامر أحدهم بينما التزم بأوامر آخر.

حلول بديلة ومؤقتة

ومع معرفتهم بالأرض والجغرافيا جيدًا، يسلك السائقون الفلسطينيون طرقًا ترابيةً وزراعيةً وجبليةً، توصف أنها للدواب أو كان يسلكها الرعاة، وذلك لاختصار زمن الرحلة، وتخطي حاجز أو أكثر.

عشرات السيارات العالقة أمام حاجز الكونتينر شمال شرق مدينة بيت لحم، 13 ديسمبر 2024

يقول يسري الرجوب "كنا نطلع دوغري من الخليل لرام الله، وبعد الحرب صرنا نطلع لفات ونمشي بطرق ترابية وجبلية، من عش غراب إلى جناتا. الله بلانا فيها طريق وعرة، بعدها عالكونتنير بتقعد ساعة والعيزرية كمان ساعة بتوصل جبع بتنام عالحاجز".

منذ الحرب الأخيرة انضم مئات السائقين لمجموعات ترصد أحوال الطرق في الضفة الغربية عبر تليجرام وواتساب وفيسبوك، وبمجرد البحث عن كلمة أحوال الطرق على تليجرام مثلًا ستجد عشرات الجروبات بمئات الآلاف من المتابعين وكذلك الأمر على فيسبوك، تعمل كلها كخلية نحل بشكل تلقائي لتعطي تحديثات لحظية، عن حالة الطرق والانسيابية عند الحواجز، ونوعية الإسرائيليين الذين يقيمون الحواجز هل هم من حرس الحدود أم من الشرطة أم من المستوطنين، وطبيعة الانتهاكات مثل التفتيش أو التوقيف أو تصوير السيارات وغيرها من المضايقات.

نشأت هذه المجموعات بشكل عفوي من مجموعة متطوعين بادروا بالمساعدة على تنظيم السير وأصبحوا يديرون أزمة الحواجز بشكل أكثر فعالية لكن ذلك لن يلغي ساعات طويلة على الحواجز وإنما يخفف حدتها في بعض الأحيان، وإن كانت تعطي النصائح بسلوك طرق بديلة بشكل سريع مع تحديثات سريعة.

استراتيجية السيطرة على الأرض 

يؤكد رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مؤيد شعبان لـ المنصة أن دولة الاحتلال أحدثت عملية فصل ممنهج، من خلال السيطرة على الأراضي الاستراتيجية عبر منظومة الإغلاق الشامل، التي أجرت عليها تغييرات جذرية، ونقلتها من مستوى القطاع، شمال وسط جنوب، إلى منظومة التجمع، مدينة، قرية، بلدة، وبالتالي لم تعد تسيطر على الحركة فقط، بل على الوصول إلى الأراضي الزراعية والحياة الاجتماعية والمعيشية الصحية والتعليمية والاقتصادية، وكل شيء. 

ويضيف أن منظومة الإغلاق لم تنشأ كلها بعد السابع من أكتوبر، إذ إن الاحتلال أعد خطة إغلاق على مدار سنوات عديدة، لكنه ضاعف جرائمه بشكل غير مسبوق بعده "اليوم بإمكاننا القول إن كل مدينة وقرية فلسطينية تحولت بفعل منظومة الإغلاق إلى جزيرة معزولة عن سياقها الفلسطيني"، ويختتم "زودنا كل منظمات حقوق الإنسان في العالم بما يلزم وما يكفي من أجل فضح ممارسات القوة القائمة بالاحتلال".

وبينما تكتفي السلطة الفلسطينية، ممثلة في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بإطلاق الاستغاثات والبيانات الإعلامية للتنبيه إلى الأزمة، فإن معاناة رنا وأسرتها تبقى معلقة، وتظل حريتها في التنقل هي وأطفالها مرهونة بالمزاج الشخصي للجنود الإسرائيليين المتحكمين بالحواجز.