الهلال الأحمر السوداني على فيسبوك، 12 نوفمبر 2022
فريق طبي متجول لعلاج مرضى السكري في رفاعة

مدينة رفاعة.. الحرب تسرق أحلام فتيات السودان

منشور الخميس 19 ديسمبر 2024

بين ليلة وضحاها، تبخرت أحلام سارة الوليد، التي تخلت عن الزواج في سن مبكرة لصالح استكمال تعليمها؛ الفتاة التي اختارت الالتحاق بكلية علوم الحاسب بجامعة البطانة في مدينة رفاعة اضطرت للهرب من مسقط رأسها فور وصول قوات الدعم السريع إليها.

حضور نسائي كثيف في إحدى الفعاليات التوعوية

تشتهر رفاعة التي تعد العاصمة الإدارية لمحلية شرق الجزيرة، وسط السودان، بأنها واحدة من البقاع المضيئة خارج العاصمة الخرطوم على مستوى تعليم الفتيات، إذ تأسست فيها أول مدرسة لتعليم البنات في السودان عام 1903، على يد بابكر بدري رائد تعليم المرأة في السودان.

مدينة أشباح

تشهد رفاعة اشتباكات طاحنة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتحولت إلى مدينة أشباح، بعد أن اقتحمتها الدعم السريع في العشرين من الشهر نفسه، ردًا على انشقاق قائدها السابق في محلية شرق الجزيرة أبو عاقلة كيكل وانضمامه إلى الجيش السوداني.

تقول سارة لـ المنصة في اتصال هاتفي من معكسر حلفا الجديد الذي لجأت إليه بولاية كسلا، شرق السودان، إن عناصر الدعم السريع لم يمهلوا الأهالي الوقت لجمع المتعلقات الشخصية، "هرولنا من المنازل بما نرتديه من ملابس وبعض النقود، حدث ذلك بالتحديد في 23 أكتوبر الماضي ومشينا على الأقدام لمدة 11 يومًا مررنا خلالها على 25 قرية قبل أن نصل إلى القضارف ومنها إلى كسلا".

وتابعت "خلال هذه الرحلة لم تكن لدينا مصادر لشرب الميه النقية بعد أن انقطعت عن جميع أنحاء شرق الجزيرة، وشربنا ميه مخلوطة بالطين من بقايا المطر في حفر خزّنت فيها الجمال الميه، وأثناء مرورنا على القرى كنا ندور على قنوات ري الزراعة للشرب منها وهي ميه مخلوطة بالطين وبميه المجاري، ومنذ وصولنا المعسكر قبل شهر تقريبًا وحتى الآن يعاني والدي من الجفاف الذي تعرض له إلى جانب إصابته بالفشل الكلوي نتيجة الميه الملوثة".

ونزح أكثر من 343 ألف شخص، يشكلون نحو 68 ألف أسرة، من مواقع مختلفة في الجزيرة إلى ولايات كسلا والقضارف شرقًا، ونهر النيل شمالًا، بسبب انعدام الأمن، وتصاعد حدة المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، بحسب منظمة الهجرة الدولية.

جات الحرب وهدمت كل أحلام سارة في إكمال تعليمها

تغيّرت حياة سارة، وباتت مضطرةً لمشاركة مساحة صغيرة من المعسكر مع النساء والرجال، "خصوصيتي ما محفوظة ولا عارفة مستقبلي هايمشي لفين، بعد ما كنت بستمتع بمجتمع رفاعة اللي كله علم ومعرفة ويمكن أن آخد منه لتطوير الوضع في مدينتي، دلوقتي أقصى طموحي أني أقف كل يوم طوابير عشان أجيب أكل مش بيقضيني مع أبوي وأمي وإخواتي الأربعة وفي أجواء برد شديد، مكان ما فيهوش أي أمان"، تقول الفتاة التي طمحت ذات يوم في أن تصبح باحثة متخصصة في علوم الحاسب والاستفادة من تنامي الطلب على هذا المجال عالميًا،

تاريخ عريق

جانب من زيارة مدرسة التدريب الخاصة في رفاعة لمعرض الزهور وفلاحة البساتين

تقع رفاعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وترتبط بجسر مع مدينة الحصاحيصا على الجانب الغربي من النهر، وتزيد مساحتها عن 16 كيلومترًا مربعًا، وهي مدينة تاريخية سكنها العنج طوال القامة قبل مملكة سنار الإسلامية، إذ وُجدت آثارهم في المنطقة، ويرجع أصل تسميتها إلى قبائل رفاعة القواسمة، وتشمل العبدلاب والرفاعين والحلاوين.

المدينة التي انطلقت بها أول ثورة ضد المستعمرين الإنجليز عام 1946، وكانت تميل إلى الحداثة والانفتاح، بالأخص في تعليم الفتيات، تبدل حالها خلال حقبة حكم الرئيس السابق عمر البشير.

تشير سارة إلى حدوث تغيّرات اجتماعية عميقة في المدينة في ظل النظام الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود تحالف فيها مع الحركة الإسلامية التي حاولت الانقضاض على المكاسب الثقافية التاريخية للمدينة لتتحول إلى تبني القيم المحافظة التقليدية.

تقول "والداي كان لديهما إصرار على أن أتزوج بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة، ورفضت عرسان كتير عشان أدخل الجامعة، وبالنسبة لينا اللي ما تتجوز بعد سن العشرين تبقى ما عندهاش قيمة في سوق الجواز، لكن كان بالنسبة لي الشهادة أهم، وجات الحرب وهدمت كل الأحلام، لا تزوجت ولا كملت تعليم".

اهتمام أبناء رفاعة بالتعليم كان الدافع وراء إنشاء جامعة البطانة التي تأسست قبل 25 عامًا، وتضم كليات التربية والاقتصاد والطب والبيطرة، إضافة لجامعة القرآن الكريم التي تضم كليات الشريعة والقانون والحاسوب وتنمية المجتمع ومعهد القرآن الكريم، إلى جانب الكليات التي تتبع لجامعة الجزيرة، كما تضم المدينة أكثر من 300 مدرسة بينها 73 مدرسة للمرحلة الثانوية.

الأسواق التابعة للدعم السريع فقط هي التي تعمل وتبيع السلع بأسعار باهظة

تقول صفية صديق، الصحفية والناشطة الحقوقية المعنية بأوضاع النازحين في شرق السودان، إن جميع المستشفيات والمدارس والجامعات في ولاية الجزيرة خرجت من الخدمة، ولا يوجد أي نشاط ثقافي أو أكاديمي، وما ينبض بالحياة فقط في المدينة بعض الأسواق التي تشرف عليها قوات الدعم السريع وتبيع السلع بأسعار باهظة، وأن هناك حالات لابتزاز المواطنين وسرقة سلعهم بعد شرائها.

تضيف لـ المنصة "90% من قرى ومدن محلية شرق الجزيرة فارغة تمامًا ولا يوجد بها أحد منذ نهاية أكتوبر الماضي، وتكشف أن هذه القرى شهدت في ذلك الحين عمليات قتل وانتهاكات جنسية واغتصابات بحق فتيات غالبيتهن حصلن على التعليم الثانوي والعالي، وهؤلاء مازلن يعانين صدمات نفسية جراء ما تعرضن له أثناء هروبهن وهناك جلسات نفسية واجتماعية للتخفيف عنهن داخل معسكرات الإيواء".

جانب من إحدى الزيارات المنزلية لفرق الهلال الأحمر السوداني بمدينة رفاعة

وفق اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، شهدت ولاية الجزيرة 47 حالة اغتصاب موثقة الشهر الماضي وسُفكت دماء المدنيين بدم بارد.

وكما يشير المبر محمود الأمين العام لمؤتمر الجزيرة، وهو كيان مدني يضم ناشطين، فإن الرقم يتجاوز 71 حالة، وغالبية الحالات جرت في الوقت الذي حاول فيه الأهالي الهروب ليلًا من منازلهم أثناء حصار قوات الدعم السريع لهم.

وتتحسر صفيّة صديق على حال مدينة رفاعة التي كانت منارة للتعليم، فلم يعد بداخلها سوى عشرات الفتيات حاليًا رفقة أسرهن في المدارس التي تحولت إلى أماكن إيواء خشية انتهاكات العناصر المسلحة التي، وإن تراجع حضورها، فإن الأهالي لا يأمنون عودة جرائمها.

وسبق وقدَّم كبار العائلات والقبائل في رفاعة وعودًا لقوات الدعم السريع بالاشتراك معهم في أي نشاط عسكري في مواجهة الجيش، مقابل عدم المساس بالفتيات، ولكن هذه الوعود لم تعد ذات فائدة، بعد الاجتياح الأخير الذي استمر لما يقرب من شهر، حسب صفية.

تؤكد الصحفية والناشطة الحقوقية أن "العديد من الرجال انخرطوا في صفوف قوات الدعم السريع لحماية قراهم وأسرهم وممتلكاتهم، وجزء منهم انخرط إعجابًا بالشعارات التي يرفعونها وتنادي بإنهاء الحكم الديكتاتوري وتحقيق الانتقال الديمقراطي، وآخرين أعلنوا صراحة عدم معاداة قوات الدعم وشكلوا حواضن اجتماعية لهم".

لكن انشقاق كيكل، أفقد قوات الدعم السريع ثقتهم في مكونات ولاية الجزيرة، تحديدًا محلية شرق الجزيرة، التي شهدت الجزء الأكبر من الانتهاكات خلال الفترة الماضية، كما تقول صفية صديق.

وتضم ولاية الجزيرة 515 مدينة وقرية ورئاسة محلية، بينها 400 منطقة هجرها سكانها، وتبقى 115 منطقة لا يزال يقيم بها أهلها، وإن شهدت كما يوضح المبر محمود، الأمين العام لمؤتمر الجزيرة، لـ المنصة ما يمكن تسميته تهجيرًا جزئيًا على يد قوات الدعم السريع، كما أن هناك مِن الأهالي مَن يسعون لمغادرة الولاية لكنهم لا يستطيعون بسبب فرض قوات الدعم إتاوات تتراوح بين 3 و5 آلاف دولار نظير السماح بالخروج.

حرق ممنهج وتخريب للمكتبات ونهب للأثاث وأجهزة المعامل

وينوه المبر محمود لأن مدينة الهلالية، وهي المجاورة لرفاعة، كانت صاحبة الجزء الأكبر من الانتهاكات، وشهدت مقتل 620 شخصًا وفقًا لآخر تحديث مطلع الشهر الحالي، فيما قتلت عناصر الدعم 128 شخصًا في رفاعة منذ بدء الاجتياح في أكتوبر الماضي، لافتًا إلى أن معظم القتلى من النساء. 

جولة لقائد سلاح المدرعات في منطقة اللاماب غرب الخرطوم

ويشير إلى أن التعليم توقف بشكل كامل في مدارس الولاية وكذلك الوضع بالنسبة للجامعات وخلوات القرآن الكريم، لافتًا إلى نهب العناصر المسلحة لجامعة الجزيرة التي تأسست عام 1975 وتعد من المؤسسات الأكاديمية الرائدة في السودان، إضافة إلى تدمير المراكز البحثية التابعة لها.

ويصف المبر ما حدث في المؤسسات التعليمية بمحلية شرق السودان بأنه "تخريب ممنهج" بسبب "التوسع في عمليات حرق المكتبات ونهب الأثاثات والمعدات الموجودة داخل معامل الكليات".

ولا يجد الأمين العام لمؤتمر الجزيرة مبررًا للإقدام على كل هذه الجرائم لأن ولاية الجزيرة بالأساس لا تمثل ثقلًا عسكريًا أو استراتيجيًا لكنها تضم مشروع الجزيرة، وهو أكبر مشروع زراعي في السودان الذي يغطي جانبًا كبيرًا من احتياجات السكان من الغذاء، وجرى تدميره بالكامل وتهجير المزارعين، ضمن أساليب الضغط على الجيش السوداني لخنق الدولة اقتصاديًا.

وألقت الحرب التي اندلعت في أبريل/نيسان من عام 2023 في السودان بظلال قاتمة على العملية التعليمية، وضاع أكثر من عام دراسي على ما يزيد على 90% من الأطفال في البلاد، وعددهم 19 مليونًا في سن الدراسة، 17 مليونًا منهم خارج المدارس حاليًا، بينهم 7 ملايين خارج النظام التعليمي قبل الحرب، مما جعل البلاد تعاني "أسوأ أزمات التعليم في العالم"، كما وصفتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسيف.

في ظل هذه المأساة، لا تملك سارة إلا انتظار اليوم الذي تتوقف فيه الحرب العبثية، فتعود لمدينة رفاعة، وتنتظم هي وزملاؤها من الطلاب في جامعاتهم ومدارسهم، وتكمل دراسة الحوسبة، ويتحقق حلمها في التخصص بالبرمجة.