في عام 1999، وقبل أشهر من وفاته، نصح الرئيس السوري حافظ الأسد، رئيسَ الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الرجل القوي في المنطقة آنذاك، بالتواصل مع الابن بشار، فهو الرئيس المنتظر لخلافته.
رحّب الحريري، الذي اغتيل في تفجير فبراير/شباط عام 2005، بالتواصل مع الشاب الثلاثيني في لقاء سرِّي رتَّبه الأب. وعليه سلك الحريري طريق دمشق من بيروت لأول مرة من أجل اللقاء، واصطحب معه عددًا قليلًا من المرافقين، على رأسهم مستشاره ووزير الإعلام اللبناني الأسبق باسم السبع، وهو من يروي تفاصيل هذا اللقاء في كتابه الصادر عن دار شركة المطبوعات ونشرت صحيفة الشرق الأوسط فصولًا منه.
وصل الحريري إلى مشارف دمشق، والتقى الأسد الابن في فيلا صغيرة تطل على العاصمة من جبل قاسيون، بنهاية اللقاء، ركب السياسي اللبناني سيارته المرسيدس، وعاد صامتًا، لم يقطع صمته إلا سؤال السبع له عن تفاصيل الجلسة، ليكشف له عن خوفه ليس على مصير لبنان واللبنانيين، لكن على مصير سوريا ذاتها التي كانت تملك في هذا الوقت خيوط اللعبة في بلده.
قال الحريري لباسم السبع، "أنا بعد هالجلسة، منّي خايف (لست خائفًا) على لبنان… فينا نقلع شوكنا بإيدينا.. أنا صرت خايف على سوريا". وحين سأله مستشاره، "ليه من غير شر؟"، أجاب السياسي اللبناني، "بعد حافظ الأسد، هيحكم سوريا ولد الله يكون بعون سوريا". ثم حرك مقعد السيارة إلى الخلف ونام.
ديكتاتور لا يملك الحنكة
صدق خوفُ الحريري بعد ربع قرن من هذا اللقاء، سقط نظام بشار، وسوريا التي ورثها من أبيه سلمها ممزقة.
سقط بشار والثمن لا يحتمل، فالديكتاتور الابن لم يملك حنكة ودهاء أبيه، واختار مصلحته وقدم حكمه في لحظة كان من الممكن أن يحافظ فيها على بلاده موحدة، واختار الحرب التي أشعلها فاكتوت يداه بنارها ولم يحتملها فألقاها وتلقفها من زاد من اشتعالها، حتى أتت على أغلب سوريا؛ قتلت أكثر من 380 ألف سوري وشردت الملايين، ودمرت البنية التحتية للمدن.
دخلت سوريا تحت حكم بشار حقبة تُشبه عصر ملوك الطوائف، دفعت البلاد إلى مرحلة الدويلات، دولة كردية بحكم ذاتي في الشمال الشرقي، وأخرى تتمدد فيها جماعات المعارضة المسلحة بفصائلها وميليشياتها، وفي يدها الآن دمشق وكبرى المدن، وتركيا تتمدد إلى داخل الحدود، مع وجود علوي في الشمال الغربي على الساحل، وداعش في البادية، وإسرائيل تتقدم في الجولان.
إلى هنا انتهى وضع سوريا، رغم أن "الولد"، بتعبير الحريري، حكم أكثر من 24 عامًا، ورث فيها من والده واحدةً من أعتى وأصلب الديكتاتوريات؛ البلد البعثي، المحكوم بالاستخبارات والسجون والرصاص والحديد، والطائرات. ولكنه لم يدرك أن ما كان ينفع في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لن يجدي نفعًا في العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين.
إرث حافظ يصمد حتى الربيع العربي
حمى إرثُ الوالد ابنَه من تقلبات عنيفة، فمنذ تولى الحكم في مطلع القرن الواحد والعشرين والمنطقة تغلي وتتبدل أوراقها، والرأس البعثي الآخر في العراق، صدام حسين، يسقط لتدخل بغداد في عام 2003 غيبوبتها الطويلة وينفتح الباب أمام الجار الإيراني.
وإردوغان يزداد قوة في تركيا، ويبعث الروح في لواء الإسكندرون ويزيد الطمع في استعادة الإرث العثماني، وإسرائيل على الخط، والبلد يضعف، يضعف، يضعف.. لا جديد إلا الديكتاتورية والفساد والسجن وقمع المعارضة، والإفقار، والشعب مطالب بتصديق البروباجندا والنظر إلى التماثيل وتمجيد البعثِ وأبدِه الذي لا يقنع بعوضة.
وصلنا إلى عام 2011 فتهاوى الإرث تحت الضربات، وسوريا لم تبق كما كانت عام 2000 ولا حتى 2010، ولا المنطقة هي المنطقة، والأجيال الصغيرة التي ورثت مع جيناتها المظلوميات والقهر والمقاتل والمسالخ، وأحداث حماة في الوجدان، تكبر وتنظر لما يحدث في العواصم العربية، وقد أتى الربيع العربي أُكله في تونس ومصر وليبيا.
خرجت مظاهرات تطلب الحرية، تنشد العدل، ترفض الفساد المستشري والحاكم لهذه الدولة، تحلم بالغد وبالرخاء، ولم يتوقع أكبر المتفائلين من الثوار السلميين الخارجين أن يحدث ما حدث لا في القاهرة ولا في العاصمة تونس، بأن يسقط النظام، ولكنهم فقط حلموا أن يخف الوطء؛ أن يُسمح بالهواء، لكن بشار لا يقرأ الطالع، اختار الرصاص جوابًا على الصدور العارية، ولا يخفى أن التركيبات في سوريا غيرها في مصر وتونس، وتشبه ليبيا القذافي بعض الشيء نعم، لكن المشهد أعقد بكثير.
بدأت المقتلة وبشار يشرب من الكأس
رفض بشار الاستماع لصوت العقل والحكمة؛ رفض وهو يملك بيده القوة وإن في الظاهر، أن يجمع شعبه، متفرق الطوائف والانتماءات، على كلمة، وعلى دستور جديد، ونظام حديث لا محل فيها للحاكم الفرد ولا وجود فيه لفساد الأسرة ولا فساد المقربين.
كابَر بشار، واستخف قومه، بمعارضتهم السلمية بمؤتمراتها، وحضوراتها المتعددة. رفع السلاح فجُوبه بمثله لتبدأ المقتلة.. سمِّها ما شئت؛ حرب أهلية أو ثورة مسلحة.. اختلطت الأوراق.. وجاء الضباب.. والمزيد من الضباب.. القتل.. المذابح.. القتل على الدين والهوية.. والسجن وضربات بالكيماوي والبراميل المتفجرة.. وحرب الدعاية والدعاية المضادة.
لم يلق بشار بالًا لانهيار سيطرته على الحدود التركية، التي ستجلب له آلاف المقاتلين يحملون الراية "السنية" ضد الطاغية العلوي؛ هكذا أُريد لهذه الحرب أن تكون في أحد ظهوراتها حربًا طائفية. شرب بشار من نفس الكأس الذي سبق وأذاق العراق منه.
الحرب الإقليمية تشتعل
نستعيد هنا التحذير الذي وجهه فخري كريم، كبير مستشاري الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني، لبشار، من خطورة تسهيل عبور الإرهابيين تحت أعين الدولة السورية إلى العراق خلال فترات الانفلات هناك، مؤكدًا أن هؤلاء المقاتلين ذوي الهوية الدينية خطر على سوريا أيضًا. وهو ما تحقق، إذ عاد المقاتلون إلى سوريا، ومنهم من تولى القيادة الآن؛ والدولة الإسلامية المزعومة في العراق والشام، ينشق عنها أبو محمد الجولاني، وتنشأ "جبهة النصرة" التي أصبحت "هيئة تحرير الشام"، وهم الآن يحتفلون في ساحة الأمويين بدمشق.
دفع بشار الثمن، دخل المقاتلون من كل الاتجاهات. والحرب تطورت حتى أصبحت صراعًا إقليميًا، فثمة قوات تابعة لتركيا.. وثمة أخرى كردية محمية أمريكيًا… وليس أمام بشار وقد ضعف جيشه وهوت حمايته ووصلت القوات إلى ريف دمشق وغوطتها إلا طلب المدد من الحليف الشيعي ممثلًا في إيران وحزب الله، ثم استحضار الدب الروسي بمصالحه وقواعده وحضوره الثقيل.. وبالفعل لم تنقلب الدفة لصالح النظام إلا بالدعم الروسي.
لكن ما الثمن، الثمن هو التبعية، والحماية المدفوعة بالولاءات وخمسة جيوش على الأرض، والحرب الإقليمية تشتعل على أرض سوريا والقرار ليس في يد النظام ولا الحكومة، صحيح أن الأمور استقرت والنظام استعاد عددًا من كبرى المدن، لكن التوازنات لم تسمح له بالحسم، بقيت إدلب وجوارها خارج السيطرة، وفيها كانت قوات المعارضة المسلحة تتأهب.
عاد نظام بشار للواجهة من بوابة الجامعة العربية عام 2023 بعد 11 عامًا من الغياب، وجمعته لقاءات مع قادة عرب.. ولكن بقي النظام رهين الحماية الإيرانية والروسية. والدولة غير موجودة إلا على المراسيم.
النظام لم يغير في مذهبه إلا شكلًا.. جرت أكثر من انتخابات وتعديلات نجح فيها بنتائج تشريفية
ورغم محاولة الروس الدفع في مسار آستانة إلى جانب إيران وتركيا، بخلاف الدفع الأممي باتجاه مبادرات الحل وفق القرار 2245 الذي أقره مجلس الأمن في 2013 فإن النظام لم يغير في مذهبه، إلا شكلًا، جرت أكثر من انتخابات وتعديلات، نجح فيها بنتائج تشريفية. بشار لا يتعلم ويظن أن الأمور انتهت.
طوفان الأقصى يرفع الحماية
كما جرى في 2011، كانت المنطقة على مشارف فوران جديد، هذه المرة انفجر طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، حركات المقاومة الفلسطينية تجتاح الحدود وتأسر أكثر من 250 إسرائيليًا، وإسرائيل تبدأ حرب الإبادة في غزة، القطاع منكوب، وحرب الإسناد بدأت؛ حزب الله يطلق دفقات الصواريخ الحذرة دعمًا، وإيران تجهر بالصياح، وصواريخ الحوثي تعبر البحر، وتستهدف السفن.. وسوريا النظام غائبة… فقط تتلقى الضربات من الطائرات وتدين وتشجب وتحتفظ كعادتها بحق الرد.
لم تبق معركة إسناد "حزب الله" كما خُطط لها، مجرد لعبة صواريخ تعبرُ الحدود، تقابلها قذائف وضربات من الطيران الإسرائيلي، وإنما تحولت لحرب ضروس على جنوب لبنان وحزب الله، يكفي أن حسن نصر الله اغتيل فيها، إلى جانب المئات من أبرز قادته وعناصره.
تداعيات الحرب كثيرة ويكفينا هنا على الأرض السورية أن الحزب خرج من المعادلة، وسبقته إيران إلى ذلك، بعدما وصلت صواريخها إلى تل أبيب، ونالت هي الأخرى نصيبًا من الضربات أصعبها كان على الأرض السورية. خرج الحليفان "الدينيان" من المعادلة.. والروس وبوتين يكفيهما الحرب الأوكرانية ودعم الغرب لها. ولا مصلحة في دعم نظام لا يقدم فائدة جديدة.
بشار رجل القش
بشار بلا حليف.. بشار تحت التهديد.. بشار أغفل قوات المعارضة المسلحة وأبو محمد الجولاني، وأغفل أن تحركها رهن إشارة. فقد تلقى النظام تهديدين، أحدهما إسرائيلي بأن يرفع يده و"لا يلعب بالنار" كما قال له نتنياهو، وآخر تركي من إردوغان، فهو لم يستجب لليد التي مدها له.
بشار سقط في الهاوية بعدما عاش سنوات طوال على شفا الحفرة، والجيش العربي السوري لم يجد حافزًا يدافع به عن رئيسه، والدول الداعمة، لا تملك من أمرها شيئًا، وقوات المعارضة تتقدم.
24 سنة من حكم بشار، و29 عامًا من حكم الأب، وقبلهما دولة البعث، كل هذا سقط في 10 أيام... إدلب فحلب فحماة فحمص فدمشق.. فقصر بشار.. والثوار والشعب والنازحون والهاربون والمساجين والقوات والميليشيات تحتفل بسقوط النظام.. ونبوءة الحريري تصدق وإن تأخرت.
خوف رئيس الوزراء اللبناني الراحل على سوريا كان حقيقيًا وقد تولى حكمها من لم يتعلم من دروس التاريخ، ولا يملك الحنكة، وقد أتى به والده حاكمًا بالصدفة، ولم يحترم شعبه، واستقوى عليه بالخارج وشرده وقتله، فكان الفرح الأسطوري بسقوطه.