تصميم: يوسف أيمن - المنصة
الحبس الاحتياطي يستخدم في مصر كعقوبة في حد ذاته

محاكمات أونلاين وإطلاق يد السلطة التنفيذية.. صيغة نهائية مخيفة لـ"الإجراءات الجنائية"

كيف التفت فلسفة مشروع القانون الجديد على الضمانات الدستورية

منشور الثلاثاء 24 ديسمبر 2024

قبل أيام قليلة وافق مجلس النواب على مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد من حيث المبدأ، متجاهلًا التحفظات والاعتراضات الحقوقية على بعض المواد، ويستعد لبدء المناقشات التفصيلية للمواد خلال الجلسات المقبلة للمجلس.

اعتاد جبالي في الرد على المتحفظين أو المعترضين على بعض مواد مشروع القانون الجديد الإحالة إلى التقرير النهائي الذي صدر عن لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمشاركة مكتب لجنة حقوق الإنسان فى نهاية أكتوبر الماضي/تشرين الأول الماضي، عن مشروع القانون باعتباره يقدم صيغة نهائية مُحَسَّنَة تتلافى أوجه القصور التي صدرت في المسودة الأولى للجنة الفرعية التي أعدت مشروع القانون، وتستجيب لتوصيات الحوار الوطني. فهل حقًا استجابت اللجنة للتوصيات والتحفظات؟ 

تعديلات محدودة 

يبلغ عدد مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية 540 مادة، تناول التقرير النهائي في مناقشته 129 مادة فقط، أوضح فيها صياغة 80 مادة كما صدرت فى صورتها الأولى بمعرفة اللجنة الفرعية، ووافق على تعديل 21 مادة غالبيتها بدعوى "الاتساق التشريعي وضبط الصياغة"، فيما رفض 28 مقترحًا بالتعديل، ثم ناقش التقرير بشكل عام دون التطرق إلى المواد التفصيلية أبواب حماية الشهود والمبلغين، والتعويض عن الحبس الاحتياطي، وإجراءات المحاكمة عن بُعد.

تجاهل التقرير مناقشة غالبية المواد التي تمس الحقوق والحريات العامة ومعايير المحاكمة العادلة والمنصفة. ورفض غالبية المقترحات المرسلة من نقابتي المحامين والصحفيين والمجموعات الحقوقية والمهنية.

لم ينظم قانون الإجراءات الجنائية القائم رقم 150 لسنة 1950 وتعديلاته ضمانة حق الصمت، بمعنى أنها ضمانة مستحدثة في مشروع القانون الجديد توافقًا مع ما ورد في نص المادة 55 من دستور 2014 التي جاء فيها "...وللمتهم حق الصمت. وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه، يهدر ولا يعول عليه".

ركز أعضاء لجنة الشؤون الدستورية أثناء الترويج لمشروع القانون في معظم اللقاءات التليفزيونية أو الصحفية التي جرت منذ نشر النسخة الأولى من المشروع وحتى بدء مناقشته من حيث المبدأ في مجلس النواب على تنظيم واستحداث هذه الضمانة الدستورية.

صلاحيات أوسع لمأموري الضبط القضائي

نص مشروع القانون فى المواد 31 و39 و40 و63 على منح صلاحيات واسعة للغاية لمأموري الضبط القضائي، تضمنت سؤال المتهم عن الوقائع ومرتكبيها، وإصدار أمر بضبط وإحضار المتهم الغائب، وسماع أقوال المتهم، واستجواب المتهم في الأحوال التي يُخشى فيها فوات الوقت.

إذًا فلسفة مشروع القانون اتجهت إلى توسيع صلاحيات مأموري الضبط القضائي من ضباط الشرطة وأمناء ومساعدي ومراقبي ومندوبي الأمن.

بلا شك يستحيل تطبيق ضمانة حق الصمت وإهدار كل قول يثبت أنه أُخذ تحت وطأة التعذيب وعدم الاعتداد به كقرينة إدانة، لأن غالبية مأموري الضبط القضائي يحرصون على كشف الجرائم وتحديد مرتكبيها، فلا يستقيم المنطق أبدًا بافتراض أن أحد مأموري الضبط القضائي قد ينبه على الشخص المقبوض عليه باستعمال حقه فى الصمت، وأن كل قول يصدر عنه تحت وطأة إكراه مادي أو معنوي يُهدر ولا يُعوَّل عليه.

مَن مِن ضباط الشرطة فى أي مكان فى العالم سيتبع هذا الإجراء؟ وهو ما يغذي الصورة الذهنية لشكلية هذه الضمانة، وأنها قد وُضِعَت في مشروع القانون دون ضوابط أو ضمانات تساعد على فاعليتها عمليًا.

تجاهل مقترح تسجيل أعمال التحقيق

رفضت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية الاعتراضات والمقترحات بشأن المادتين المنظمتين لصلاحيات مأموري الضبط فى إصدار أوامر الضبط والإحضار، واستجواب المتهم، فيما تجاهلت التعليق من الأساس على المادتين المنظمتين لصلاحية مأموري الضبط في سؤال المتهم عن وقائع الجريمة، وسماع أقوال المتهم، وهو النمط الذي يؤكد أن اللجنة لم تعدل الصيغة النهائية في المواد الأكثر مساسًا بالحقوق والحريات العامة.

لم يلتفت التقرير النهائي للجنة إلى اقتراح استخدام آلية تسجيل أعمال مأموري الضبط القضائي بالصوت والصورة، رغم قوة هذه الأدة التي تسهم في تأكيد الضمانات الدستورية للمتهم، كما لم تلتفت اللجنة إلى مقترح التراجع عن منح مأموري الضبط القضائي سلطة استجواب المتهم عن الجريمة وسؤاله عن وقائعها من دون حضور محاميه.

حق الاتصال بالأهل والمحامي

يحظر قانون الإجراءات الجنائية القائم في المادة 70 استجواب المتهم فى حالة الندب لمأموري الضبط القضائي للقيام بعمل أو أكثر من أعمال التحقيق، أما مشروع القانون الحالي فمنح هذه الصلاحية لمأموري الضبط القضائي في المادة 63، دون ضوابط. 

ليس من الطبيعي أن يستجوب مأمورو الضبط القضائي المتهم، لأن الاستجواب فى حقيقته هو عمل من أعمال التحقيق وهي أعمال مقتصرة حصرًا على النيابة العامة، وإذا كان هناك منطق سليم في منح مأموري الضبط القضائي صلاحية سؤال المشتبه فيه عن الجريمة أو سماع أقواله فيما يدرأ الاتهام عنه، فلا يجب منحهم أكثر من صلاحية السؤال لأن السؤال يختلف كثيرًا عن الاستجواب، والسؤال هنا عن ارتكاب الجريمة من عدمها أما إذا تعدت المناقشة أكثر من ذلك فترتقي إلى الاستجواب.

نظم مشروع القانون حق اتصال المتهم بذويه ومحاميه، ونص على أن يمكنه من ذلك مأمور الضبط القضائي فور القبض عليه، لكن لم يحدد الضمانة لتنفيذ هذا الحق، كما لم يشر إلى أن عدم تمكين المتهم من الاتصال بأهله أو ذويه ومحاميه من شأنه أن يقضي ببطلان الإجرءات وبالتالي تبرئة المتهم.

فضلًا عن أن وجود المحامي بشخصه بجانب المتهم خلال سؤاله أو استجوابه من قبل مأموري الضبط القضائي هو إجراء يوفر ضمانة معقولة لتحقيق هذه الضمانة الدستورية وتنفيذها بشكل فعال، وهو ما لم ينص عليه مشروع قانون الإجراءات الجنائية.

محاكمات عن بعد دون قيود

ورد فى التقرير النهائي للجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في صفحة 18 أن توصيات الحوار الحوار الوطني أكدت على مباشرة إجراءات المحاكمة الجنائية عن بعد "في الظروف الاستثنائية"، مع التأكيد على ضرورة وجود محامي المتهم في مكان نفس مكان احتجازه وعدم الفصل بين المتهم ومحاميه عند اتخاذ إجراءات التقاضي عن بُعد. 

ومنح مشروع القانون الحالي النيابة العامة والمحكمة المختصة السلطة التقديرية في مباشرة المحاكمات عن بُعد، دون أن يلزمها بتوافر الظروف الاستثنائية، فضلًا عن النص فى مشروع القانون على أن يحضر المحامي من مكان محبس المهتم، وهو الأمر الذي قد يؤثر على حرية الدفاع ويصيبه بالخوف لأنه سيترافع عن موكله من مكان سجنه أو احتجازه.

وفي الأدبيات الحقوقية فإن حالة الطوارئ لا بد أن تكون مناسبة مع التهديد، وألا تطبق إلا في حالة الضرورة، ويجب إعادة تقييم أي حالة طارئة باستمرار، حتى لا يصبح الاستثناء أمرًا طبيعيًا.

ويكفل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تلك الضمانة بوضوح، حيث ينص على أن لكل متهم بجريمة الحق في أن يحاكم حضوريًا وأن يدافع عن نفسه بشخصه، وأن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره. تعد هذه الضمانة واحدة من الضمانات التي لا يجوز للدول التنازل عنها إلا في حالات الطوارئ، وفي أضيق الحدود التي تفرضها مقتضيات الوضع الفعلي.

كما نصت المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في إفريقيا، الصادرة عن اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب على أن للمتهم الحق أن يحاكم حضوريًا وأن يمثل بشخصه أمام هيئة قضائية.

كذلك تجاهل مشروع القانون الحالي توقيع المتهم أو محاميه على محاضر تفريغ الجلسات المصورة بالصوت والصورة؛ الأمر الذي تنعدم معه ضمانة أن ما ذُكر فى الجلسات هو المكتوب في محاضر التفريغ، إضافة إلى إهدار مبدأ العلانية لأن بطبيعة الحال هذه الجلسات سوف تكون مغلقة بين النيابة أو المحكمة المختصة وبين المتهم ومدافعه من داخل السجن.

لا شك أن تطبيق المحاكمات عن بعد بهذه الكيفية سينتج عنه زعزعة الثقة فى جودة النظام القضائي ذاته، نظرًا لتجاهل مشروع قانون الإجراءات الجنائية كل المبادئ والأصول الجنائية التي توجب حضور المتهم بشخصه أمام قاضيه الطبيعي.

الغريب في الأمر أن توصيات الحوار الوطني أكدت على وجوب حضور المتهم بشخصه أمام قاضيه الطبيعي، كما ورد فى التقرير النهائي للجنة الشئون الدستورية والتشريعية، لكن بالنظر إلى نصوص المواد التي تنظم إجراءات المحاكمة عن بعد نلاحظ أنها جاءت خالية من تحديد "الحالة الاستثنائية" التي تبيح تفعيل المحاكمات عن بعد، وهو ما يؤكد على ما سردناه فى بداية المقال من سمات توصم التقرير النهائي للجنة الشئون الدستورية والتشريعة.