بصدورٍ عارية، وأحيانًا بأقدامٍ لا تثقلها الأحذية، يتصدى الفلسطينيون في غزة لجيش الاحتلال، ويبتكرون قيمًا ومعانيَ واصطلاحات جديدة، من "المسافة صفر" إلى "عصا السنوار". لا يطلبون عونًا من جيرانهم العرب ضحايا الاحتلال الوطني.
شعوبٌ مقهورة بالحديد والنار وأنظمة متواطئة مع العدو وراعيه الأمريكي. وحماس تدرك، منذ اشتعال شرارة طوفان الأقصى أن الفلسطينيين وحيدون، هم وحدهم الأحرار في بؤس العالم العربي، وغير الأحرار يستكثرون على الحرِّ شرف الشهادة، وهذه سادية جديدة لا يُخطئها المراقب، منذ استشهاد يحيى السنوار، في 17 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، على خط المواجهة مع العدو.
الإعلام الصهيوني، في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، اتهم السنوار بالإرهاب، وأضعف الإيمان لقليلي الحيلة أن يسمّوه شهيدًا. ماذا يستفيد الإعلام في السعودية ومصر بالإصرار على نزع هذا الشرف؟
رأيت جنديًا أمريكيًا سابقًا يشيد ببطولة السنوار، ويؤدي له التحية، وفي اليوم نفسه سمعت مصريًا اسمه أحمد موسى يخصص وصلةَ زعيق تليفزيوني لإنكار شهادة السنوار، ويستدعي قائمة اتهامات تخلو من أي إشارة إلى إسرائيل التي تمارس إرهاب الدولة، ومن نتنياهو المتهم في يوليو/تموز الماضي من المحكمة الجنائية الدولية بأنه مجرم حرب.
أحمد موسى، للتذكير، هو صحفي مصري، وليس مهنة، ولا اسمًا لفضائية مثل MBC السعودية التي أذاعت تقريرًا عمَّن وصفتهم بالإرهابيين والأشرار، وآخرهم السنوار، ولم تتذكر إرهابيًا صهيونيًا واحدًا. لولا التأكد مما بثته الفضائيتان، المصرية والسعودية، لظننته مكيدةَ فضائيةٍ عبريةٍ.
المدفعية الإعلامية استعانت بالصحافة الورقية، فتراوحت بين الشماتة باغتيال السنوار، وما يشبه التهنئة للعدو بإنجاز الاغتيال بكفاءة. هكذا احتفلت صحيفة عكاظ الحجازية: إسرائيل تلحق السنوار بهنية.. "حماس" بلا رأس. كأن العنوان الثاني محذوف منه شيء تقديره "بشراك يا إسرائيل".
المتنعِّمون في سعةِ العيش، العائمون في مياه البطيخ، السابحون في آبار النفط، المعطون ظهورهم للكعبة مرتدِّين إلى القبلة الأولى باسمها الصهيوني، هؤلاء يفتقدون الوعي بالبراعة الميدانية للمقاومة، ولا يجيدون قراءة التاريخ، ويجهلون أن اغتيال المجاهد لا يعني بطلان معنى المقاومة، ولا يحيطون بقصص الأنبياء غير المحصّنين ضد الموت أو القتل.
في غزوة أُحد تمكَّنت قريش من هزيمة المسلمين، وأشيع أن النبي قُتل، والصحابة الجرحى أصابهم الجزع واليأس، هنا يكون لصيحة مصعب بن عمير معنى الإفاقة. ذكَّر المسلمين بأن الرسالة هدفٌ مبدئيٌّ لا يرتبط بشخص النبي. ورأى أن يثبّت قلوبهم فقال: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟!
الصيحة، التي اقتضتها اللحظة الحرجة، انتصرت لجوهر الرسالة. صرخة لم يعدّ لها ابن عمير، ولم يتوقع أن الذي نطق به لسانه إنما هو الحكمة وفصل الخطاب، حتى إن صيحته تبنّتها الآية 144 من سورة آل عمران "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجري الله الشاكرين".
في تسجيلٍ متأخرٍ للسنوار، سخر من الجاكيت الذي أجبروه على ارتدائه لمقتضيات العمل السياسي. جاكيت عمليّ، نظر إليه الرجل باستهانة، كأنها يقول إن هذا ليس ثوبه، واستهان بالموت الذي لا يخافه، فكل إنسان يموت، وليس أشرف للمقاوم من الموت في الساحة، في الصفوف الأولى.
لم يشاهد السنوار أشرفَ مشهدٍ يحظى به مقاتل؛ لحظة الشهادة، وهو أعزل، استشهد رفاقه أو تفرقوا، ولا يملك بيده السليمة إلا أن يلقي عصا على الطائرة المغيرة، هذا أقصى ما يستطيعه في النفس الأخير، وهو يعي أن العصا لن تردّ الطائرة، فصارت "عصا السنوار" رمزًا.
نحن الآن في مرحلة هزيمة وأول شروط التعافي هو الاعتراف بها وهي تَسِم أحوال العالم العربي المكبل بالتبعية
العدو بثَّ المشهد؛ لإشاعة اليأس في نفوس حماس والفلسطينيين عمومًا، ولم يدرك خياله العاجز دلالة طاقة الأمل التي تطلقها العصا كلما أذيع المشهد. العدو نفسه استنكر أن يرمي إدوارد سعيد، عام 2000 حجرًا رمزيًا من جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلة. أمس حجر إدوارد سعيد، واليوم عصا السنوار.
عَلِم السنوار أن العصا لا تحسم معركة مع طائرة، لكنها سلاحه الباقي، آخر ما يمكن ليده أن تقذف به عدوّه، وقد نال ما تمنى، واستشهد في الميدان بثياب القتال، وأحبط زوابع صهيونية استهدفت سمعته، واستعداده للخروج، وجاء موته دليلًا على الإيمان بالدفاع عن الحق، والرهان على زوال الاحتلال، مهما يكن الثمن، ليلحق بشهداء طمس التاريخ أسماء قاتليهم.
في فيلم عمر المختار، قال الضابط لرئيسه القائد وهما يمارسان القتل لتأديب الثوار الليبيين "المتمردين"، الأشرار حسب خطاب فضائية MBC السعودية: ألا تخشى أن يذكر لنا التاريخ ارتكاب هذه الصغائر؟ فأجاب القائد: الخوف أن تنسانا روما.
وقد نسيهما التاريخ الذي احتفظ بصفحة مجيدة لعمر المختار والذين معه.
لم تفلح المحاولات الأمريكية في تشويه صورة تشي جيفارا، مَن يذكر اسم الرئيس الأمريكي الذي انتشي لا شكّ بقتله؟ ولا ذِكْر بالطبع للذين قتلوه ومثلوا بجثته، وضعوه على طاولة خشبية، فوق حوضٍ للمياه. لم يصدِّق القتلة أنهم قنصوه، ففحص أحدهم رأسه ووجهه يحتفظ بابتسامة ساخرة.
في عام 2010 شاهدت فيلم تشي: رجل جديد للمخرج الأرجنتيني تريستان باور الذي عمل 12 عامًا ليُنهي الفيلم الذي يوثق رحلة الشهيد، بالصور والمستندات الشخصية، ويتتبع حياته مواطنًا وطبيبًا وثائرًا، ثم ظافرًا يخاطب العالم عبر الأمم المتحدة، باللغة نفسها التي يخاطب بها أولاده الأربعة. كان عاشقًا كبيرًا، يحلم بميلاد "الإنسان الجديد"، واتهم بأنه "مثالي"، وكان متسقًا مع نفسه في مناهضة توحش الرأسمالية، حين أوصى: كونوا واقعيين، واطلبوا المستحيل.
نحن الآن في مرحلة هزيمة، أول شروط التعافي هو الاعتراف بها وهي تَسِم أحوال العالم العربي المكبل بالتبعية والفقر والديون والاستبداد العسكري والطائفي والعشائري. في العالم العربي لا يوجد الآن بلدٌ حرٌ، ولا سلطةٌ منتخبةٌ تمثل الشعب، والمسافة تتسع بين الشعوب الواعية المحبة للحياة والسلطات الحليفة للرأسمالية العالمية وتحكم بالوكالة والإنابة عن الراعي المتحكم في العروش.
في هذه الجغرافيا العربية الميتة بلدٌ حيٌّ، يفاجئ العالم بوجوده متحديًا محاولات الإماتة والإبادة منذ نكبة 1948. فلسطين نقطة صغيرة في البحر المهزوم تقاوم، تراهن على الأمل، وترفض المساومات، وتؤكد استعادة الحق استنادًا إلى أنه حق. وإيمانًا بقدرتهم على الصمود، حتى آخر حجر، ولن تنفد الحجارة المقدسة، وقد اعتدل الميزان، وتمكنت أيدي أصحاب الأرض من القبض على الحجارة، وانتزاعها من يد داود.
الحقائق على الأرض تنسف الأساطير المؤسسة لكيان يشعر، كل يوم، باقتراب نهايته.