تموج أروقة نقابة الصحفيين حاليًا بحالة من الجدل والنقاش الحاد، بعد اقتراح النقيب خالد البلشي فتحَ باب الانتساب للنقابة أمام الزميلات والزملاء العاملين في المواقع الإلكترونية التي تنامى عددها في السنوات الأخيرة، وأصبحت عمليًا المصدر الأول للأخبار لأغلب المصريين، بالتزامن مع التراجع الحاد في توزيع الصحف الورقية المطبوعة التي تجاوزها الزمن.
حالة الجدل التي صاحبت اقتراح النقيب تدفع للتفكير في حال الصحافة في مصر عمومًا، وتعريف مَن هو الصحفي في مصر أساسًا. تاريخيًا، وبالنسبة للعاملين في المهنة في مصر، يتجاوز دور نقابة الصحفيين كونها المؤسسة المعنية بحماية بمصالح العاملين في المهنة، لتصبح البوابة الشرعية التي تمنح الحق في ممارسة المهنة، تمامًا كنقابات المهندسين والأطباء والصيادلة وأي مهنة متخصصة أخرى.
فالأصل في مصر كان تقليص وتقييد حرية امتلاك وإدارة الصحف منذ قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميم الصحافة واعتبارها ملكية للدولة في مطلع الستينيات. وبناءً على هذا القرار، أصبح من حق المؤسسات القومية فقط، مثل الأهرام والأخبار والجمهورية وغيرها، إصدار وتوزيع الصحف، بينما مُنعت الصحف الخاصة.
وبالتالي، كانت مجالات العمل الصحفي محدودة بالنسبة لمن يرغبون في العمل بهذه المهنة التي تزداد صعوبتها في الدول المشابهة لمصر؛ حيث تتأرجح الصحافة بين أصلها كوسيلة لنقل الحقيقة والمعلومات الموثقة للقارئ، ورؤية الدولة لها كأداة دعائية تروِّج للنظام وتقنع القراء بأنه رائع ويحقق كمًّا هائلًا من الإنجازات.
وحتى بعد أن قرر الرئيس الراحل أنور السادات السماح بتجربة حزبية محدودة، ترتب عليها وجود عدد محدود من الأحزاب يحق لكلٍّ منها إصدار صحيفته، ظلّت سوق العمل الصحفي محدودة، خاصة أن ظروف العمل في الصحف الحزبية كانت شديدة الصعوبة وتُعرِّض العاملين فيها لمخاطرَ تشمل الحبس، إلى جانب سوء أوضاعها المالية المزمن، ما دفعها في أحوال كثيرة للاعتماد على مصادر دعم حكومي غير مباشر.
صك الاعتراف
وفي إطار سيطرة الدولة على كافة أوجه العمل العام في مصر، بما في ذلك النقابات المهنية والعمالية، أصبحت عضوية نقابة الصحفيين بمثابة اعتراف رسمي من الدولة بحق من يحمل الكارنيه في ممارسة الصحافة، وعدا ذلك، يعتبره القانون "منتحلًا لصفة صحفي" وهي جنحة تُرتِّب على مرتكبها الحبس.
بعد سنوات طويلة من عملي كمتدرب، يقدم إنتاجًا صحفيًا يُنشر في إحدى المؤسسات القومية، لم أكن أستطيع تقديم نفسي رسميًا كصحفي، خاصة في حال الاضطرار للتعامل مع أي جهة أمنية، مثلما يحدث عادةً عند تغطية أي حدث في الشارع، حيث يكون أول ما يطلبه سعادة الضابط كارنيه النقابة. وفي حالة عدم وجود الكارنيه يرد الضابط: يبقى إنت مش صحفي. تعالى معايا.
لم تؤخذ البدايات الخجولة لإنشاء مواقع صحفية بدلًا من الصحف المطبوعة بجدِّية
كانت هناك استثناءات بالنسبة للصحفيين المحليين الذين يعملون مراسلين لوكالات الأنباء الأجنبية ومكاتب الصحف العربية، إذ يحصلون على كارنيه من المركز الصحفي التابع للهيئة العامة للاستعلامات يسمح لهم بممارسة المهنة. وهؤلاء يحق لهم أيضًا الالتحاق بالنقابة اذا أرادوا ذلك، وفقًا لقانونها.
المهم أن يكون لديك كارنيه من جهة رسمية يحمل ختم النسر لتطلق على نفسك وصف "صحفي"، ولم يكن متعارفًا أن تعتبر نفسك صحفيًا حرًا تكتب مقالات أو تقدم إنتاجًا صحفيًا لجهات متعددة دون الارتباط بمؤسسة واحدة.
ويزداد الوضع سوءًا لو أمسكت بكاميرا وحاولت التقاط الصور في الشارع، وهو أمر يعتبر من أكبر المحرمات بالنسبة للجهات الأمنية التي لا يكفيها في تلك الحالة كارنيه النقابة أو الهيئة العامة للاستعلامات، بل تطلب تصاريح خاصة إضافية بالتصوير في المكان المحدد، وإلا قد تلاحقك تهم عديدة بداية من السعي لتشويه صورة مصر في الخارج ونهاية بالشروع في التجسس.
وعندما دخلنا عصر الإنترنت والموبايل، لم تؤخذ بجدِّية البدايات الخجولة لإنشاء مواقع صحفية بدلًا من الصحف المطبوعة التي تتطلب أحبارًا وأوراقًا وأعدادًا هائلة من العاملين، جزء كبير منهم إداريون، بل اعتُبرت أقرب إلى محاولات بعض الهواة الراغبين في ممارسة المهنة، ولكنهم في النهاية ليسوا صحفيين حقيقيين لأنهم لا يعملون في صحف مطبوعة تعترف بها الدولة. وبالتالي، فإن الزميلات والزملاء الذي يعملون في هذه المواقع لم يكن مسموحًا لهم الالتحاق بنقابة الصحفيين ولم تكن الجهات الرسمية تعترف بالكارنيهات التي تُصدرها لهم جهات أعمالهم.
الآن، في مصر والعالم، تغير مفهوم الصحافة تمامًا، ولم تعد الصحف ومحطات التلفزيون أساسًا هي المصدر الرئيسي للأخبار من الأساس بالنسبة لقطاع كبير من المواطنين، خاصة الشباب. وفي الولايات المتحدة، كشفت إحصاءات لمؤسستي بيو وجالوب أن ثلث الأمريكيين تقريبًا يعتمدون على تيك توك مصدرًا للأخبار، رغم اقتصار محتواه على الفيديوهات القصيرة دون أيّ مادة مكتوبة.
كما ينافس يوتيوب أكبرَ المؤسسات التليفزيونية الأمريكية مصدرًا للأخبار بالنسبة لكثير من الأمريكيين، ولا يقصد هنا قنوات المحطات التليفزيونية التقليدية على الموقع، بل قنوات صُنَّاع المحتوى أو المؤثرين والشخصيات المشهورة التي يفضلها الجمهور ويثقون بها.
بالطبع يعتمد هؤلاء المؤثرون في الكثير من معلوماتهم على المصادر التقليدية للمعلومات من صحف ومحطات تليفزيون، ولكن غالبية المتلقين الكسالى الواثقين في صُنَّاع المحتوى الذين يتابعونهم لن يدققوا المعلومات التي قُدِّمت لهم أو لن يتوسع في المعرفة والبحث عن المعلومات من مصادرها الأصلية، وسيكتفون بما سمعوه في ثوانٍ معدودة.
معضلة البدل
المؤكد أن الزميلات والزملاء في المواقع الصحفية يمارسون كافة أشكال العمل الصحفي المتعارف عليها مهنيًا، وأصبحوا هم المصدر الرئيسي للأخبار لغالبية المتلقين. ولكن الحسابات السياسية والخشية من توسيع الاعتراف بأعداد أكبر من الصحفيين في المهنة، وكذلك قضية البدل الصحفي الحساسة، تظل من الأسباب الرئيسية التي تمنع تسهيل انضمام أعداد إضافية من العاملين في المهنة إلى النقابة.
الأجدر هو أن نتساءل لماذا يحتاج الصحفي أساسًا إلى اعتراف من جهة رسمية
بالطبع قضية ما يسمى بـ"بدل التدريب والتكنولوجيا" الذي يحصل عليه أعضاء النقابة المشتغلون ومن هم تحت التمرين، وعددهم يتجاوز العشرة آلاف بقليل، هي بدعة ازدادت أهميتها مع الوقت، في ظل الارتفاع المرعب في تكاليف المعيشة وتدنِّي الرواتب. وقد استخدمتها الحكومة بطريقة فعالة لمواصلة الضغط على الصحفيين والنقابة من أجل عدم افتعال المشاكل والخروج عن الخط الرسمي.
في الثمانينيات والتسعينيات كان البدل الذي اعتبره النقباء السابقون إنجازًا تمكنوا من اقتناصه لصالح تحسين مستوى معيشة الصحفيين محدودًا جدًا، لا يتجاوز 80 أو 100 جنيه. ولكنه اليوم يبلغ 3900 جنيه. وهناك الكثير من الصحفيين الشباب الذين يرون في هذا المبلغ دخلًا مناسبًا في وقت تقوم فيه بعض الصحف والمواقع الصحفية بتشغيل الزميلات والزملاء بمبالغ هزيلة مخجلة لا تتجاوز ألفي أو ثلاثة آلاف جنيه، وهو أقل من الحد الأدنى للأجور.
وللأسف، ورغم أن دخل الصحفية أو الصحفي يجب أن يأتي من مؤسسته دون أن يكون بحاجة إلى دعمٍ حكوميٍّ، على اعتبار أن الحكومة طرف له مصلحة في التأثير على مضمون ما ينتجه الصحفي، فإن الخشية من خسارة البدل الشهري الذي يحصل عليه أعضاء النقابة قد يكون العامل الرئيسي وراء الحملة الرافضة لدخول الزميلات والزملاء من المواقع الإلكترونية إلى النقابة، ولو كمنتسبين لا يحق لهم التصويت أو الحصول على البدل من الأساس.
ولكن المعارضين يقولون إن مجرد الدخول كمنتسبين قد يفتح الباب لاحقًا نحو المطالبة بالحصول على البدل الشهري، بحكم ممارستهم العمل الصحفي وفقًا للقانون. وبالطبع إذا كانت الحكومة تدفع بدلًا لنحو 10 آلاف صحفي، فإنها لا ترغب في زيادة هذا العدد إلى الضعف، خاصة إذا ذهب البدل إلى مواقع خارج السيطرة ولا تلتزم بالخط الرسمي.
ربما يكون الأجدر هو أن نتساءل لماذا يحتاج الصحفي أساسًا إلى اعتراف من جهة رسمية، ولماذا لا تكتفي الجهات المعنية بالخطاب أو الكارنيه الصادر له من جهة عمله، بجانب ما يحتفظ به من إنتاج صحفي في الموقع الإلكتروني الذي يعمل به.
الإجابة تكمن بالطبع في رغبة الجهات الرسمية في تضييق هامش حرية العمل الصحفي من الأساس، والاحتفاظ بوسيلة تُمكِّنها دائمًا من منح رخصة العمل الصحفي لمن تشاء. ولا يمكن أن تكون نقابة الصحفيين المصرية التي من المفترض أن تدافع عن حرية المهنة طرفًا في هذا التوجه، ويجب أن تفتح أبوابها لكل من يمارس العمل الصحفي كما هو متعارف عليه، وألَّا يكون الهمُّ الرئيسي للصحفيين بدل التكنولوجيا والتدريب، الذي يدفع بعض الصحفيين الشباب مبالغ مالية لمؤسسات صحفية مغمورة أو لم تعد تصدر إلا بشكل صوري، لتمنحهم خطاب تعيين وتأمينات، تسمح لهم بعضوية النقابة.