أصبح النصر السهل للخروج من الفخ الصعب هو تكتيك نتنياهو للنجاة. كلما تعثر نتنياهو في غزة لجأ للانتصارات السهلة بالقنابل الأمريكية التي تحمل 2000 رطل (أكثر من 900 كجم) من المتفجرات في سماء لا ينازع فيها طائراته ذات القدرات الشبحية أحدًا.
انتصار أم نشوى الدم؟
يروج البعض إلى أن نتنياهو بعد سنة من الحرب يبدو منتصرًا، أو في طريقه لذلك. لكن لم يخبرنا أحدٌ علام انتصر؟ وكيف انتصر؟ وما الأهداف التي حققها؟
غير أن النصر الحقيقي يبدو بعيدًا عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يبدو منتشيًا بالدم أكثر منه منتصرًا في حربه، فالانتصار مرتبط بالأهداف التي أعلن قيام الحرب من أجلها، وهو ما لم يتحقق بعد عام كامل من القتال غير المتكافئ. يقاتل نتنياهو خصمًا محاصرًا لا يمتلك خطوط إمداد، ورغم ذلك لم تتفكك حماس وما زالت قادرة على توجيه ضرباتها، ولم تحرر إسرائيل المحتجزين عبر أي صفقة أو ضغط عسكري، وبالطبع لم يعد سكانها إلى شمال إسرائيل.
ما يثير الانتباه أن ما يفتخر به نتنياهو ويعتبره انتصارًا حدث خارج غزة، مركز الزلزال ونقطة انطلاق الحرب. يتباهى باغتيال إسماعيل هنية في طهران، واغتيال حسن نصر الله في بيروت، وتفجير أجهزة البيجر. أما داخل غزة، فكان إنجازه الأكبر تحرير أربعة محتجزين إسرائيليين من النصيرات، وحتى هذا النجاح جاء بتكلفة بشرية كبيرة لا تقتصر على الفلسطينيين، وخلفت العملية تداعيات على إجراءات حراسة المحتجزين.
انهيار المبادئ الأربعة
كانت إسرائيل أسست استراتيجية دفاعها على أربعة مبادئ أساسية: الردع، والمراقبة، والدفاع، وهزيمة العدو. إلا أن هذه المبادئ انهارت بوضوح في هجمات 7 أكتوبر، فلم تكن حماس تحت الردع الإسرائيلي، وتشجعت على القيام بأكثر العمليات جرأةً خلف خطوط العدو وفي قلب مدنه.
بعد سنة من التدمير المنهجي لغزة تلحِق المقاومة خسائر بإسرائيل
فشلت إسرائيل في مراقبة تحركات حماس وتوقع هجماتها، وعجزت عن الدفاع عن غلاف غزة، بل شهدت هجمات على أرضها.
في ليلة الذكرى الأولى للحرب تحاول القوات الإسرائيلية تطويق جباليا في شمال غزة، بعدما أكدت من قبل أن قدرات حماس تم تفكيكها في الشمال بأكمله، وهو ما ثبت عدم صحته، فواجهت قوات الاحتلال مقاومين فلسطينيين.
بعد سنة على التدمير المنهجي لغزة، استطاعت المقاومة إلحاق خسائر بصفوف الإسرائيليين، ولا تزال التشكيلات المدرعة والمشاة الإسرائيليون عرضة لكمائن وسط القطاع وجنوبه وشماله. بقيت غزة خارج السيطرة وحماس لا تزال قادرةً على الاشتباك. ولم ينجح ضرب سلسلة القيادة والسيطرة لحزب الله في تحييد نيرانه. الأمر الذي فتح الباب لإعادة تقييم استراتيجية الدفاع الإسرائيلية كلها.
الحروب الدائمة تحت حكم التوراتيين
منذ وصول حكومة تُوصف بأنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل عام 2022، بدعم من الأحزاب الدينية التوراتية والقوميين المتطرفين، ظهر تحول واضح في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الحرب لتعكس تغير المزاج الإسرائيلي العام نحو مزيد من التفسيرات الدينية للعالم وللصراع.
وبينما كان العلمانيون القوميون الذين حكموا إسرائيل تاريخيًا يميلون إلى الحروب الخاطفة والانتصارات السريعة، يرى التوراتيون أن الحرب الدائمة ضرورة للحفاظ على تماسك المجتمع، فمنها يستمدون قوتهم. وإن لم يجدوا خصومًا فعليهم اختراع خصوم للحفاظ على الروح الانتقامية.
تاريخيًا، حاولت إسرائيل تحقيق انتصارات بأقل تكلفة بشرية واقتصادية ممكنة، بنقل المعركة لأرض العدو، فيما أظهر عامٌ من الحرب أن الحكام التوراتيين أكثر قبولًا لتحمل ثمن بشري واقتصادي أكبر، مقابل استمرار الحرب أطول فترة ممكنة، حتى لو أدى ذلك لانتقال جزء من المعركة إلى أرض إسرائيل، سواء بالقصف الصاروخي أو العمليات النوعية في المدن الإسرائيلية.
باتت القيادة الإسرائيلية الحالية تولي أهمية أقل لدماء مواطنيها مقارنة بتحقيق أهدافها الانتقامية. فعَّلت إسرائيل بروتوكول هانيبال الذي يشمل تنفيذ عمليات قصف مركزة في محيط المناطق التي يتم فيها احتجاز جنود إسرائيليين، ما يؤدي لمقتل المحتجزين والمسؤولين عن احتجازهم على السواء.
في بعض الأحيان، كانت الرغبة في الانتقام مقدمة على الحفاظ على حياة المحتجزين، فإسرائيل قصفت أماكن يشتبه بوجود أسراها فيها لقتل عدد من الفلسطينيين.
التحالفات الغربية تحت الاختبار
قدمت إسرائيل نفسها على أنها تنتمي للشرق جغرافيًا لكنها ابنة الغرب ثقافيًا وحضاريًا وسياسيًا. استغلت عقدة الذنب الغربية، ومفهوم الحضارة اليهو-مسيحية، لإنشاء تحالف يمد إسرائيل دومًا بمقومات التفوق على خصومها، وهو التحالف الذي ضَمن لإسرائيل البقاء في بيئة معادية كالشرق الأوسط.
بعد حرب غزة أعادت إسرائيل استخدام مقاربة العالم الحر ضد البربرية، واستخدمت مشابهة ألمانيا النازية والمحرقة لحشد الغرب لدعمها. لم تصلح تلك المقاربة لتحريض كل الغرب لكنها نجحت في تحريض قوته المؤثرة؛ مجمع الصناعات العسكرية والصفوة الحاكمة في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية خاصة برلين.
لكن استمرار الحرب أظهر تصدعًا في هذا التحالف وهوامش مقاومة حتى في أوروبا. فقد أدانت دول أوروبية مثل أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا وبلجيكا العدوان الإسرائيلي، ودعت لوقف إطلاق النار منذ بداية الحرب.
النصر الإسرائيلي ما هو إلا انتقام وإرضاءٌ لرغبة حكام مملكة يهوذا الجديدة
كما استسلمت فرنسا أخيرًا لضغوط اليسار داخلها، ودعا رئيسها لوقف تسليح إسرائيل، وعلقت حكومة العمال البريطانية 30 رخصة تصدير أسلحة لإسرائيل.
وفي خطوة رمزية أعلنت حكومة برلين، عاصمة العقدة اليهودية، تعليق تصدير الأسلحة لإسرائيل بسبب مخاوف من انتهاك القانون الإنساني الدولي، وتبعتها كندا.
وحدها، الولايات المتحدة تستمر في الدعم المطلق لإسرائيل، تمدها بأكثر الأسلحة فتكًا، فتزيل أحياءً كاملة بما فوق الأرض وتحتها، لإحداث الصدمة النفسية لخصوم إسرائيل وتعزيز نشوة النصر للتوراتيين الإسرائيليين.
لكنه نصر في الفراغ مجرد من الأهداف إلا الانتقام.
حرب بلا أفق
لم تقض إسرائيل على أعدائها، بل على العكس؛ عززت وحشية آلتها الحربية المظلومية التي خلقت هؤلاء الأعداء من البداية. وتصدعت جبهة حلفائها وبدأت أصوات المعارضة ترتفع في صفوفهم. وبعد مرور عام، لا يمكن الجزم بمتى ستنتهي الحرب ولكننا نعرف أنها ستنتهي دون تحقيق أهدافها.
تحولت الحرب التي كان من المفترض أن تكون خاطفة إلى حفلة دم ضرورية لبقاء حكم التوراتيين لأطول فترة ممكنة.