قبل عام 2018، كانت أسرة المزارع محمد أبو سمرة، من قرية الصوفية بمركز أولاد صقر بالشرقية، تتمتع باكتفاء ذاتي من الأرز، بفضل إنتاجها طنًا ونصف الطن سنويًا، تكفي لتغذية العائلة المكونة من ثمانية أفراد على مدار العام، بعد بيع جزء من المحصول.
بعد هذا التاريخ اضطر أبو سمرة لخفض إنتاجه تدريجيًا حتى وصل إلى 9 أجولة فقط بوزن يقارب 750 كجم، بسبب قرارات حكومية بترشيد زراعة الأرز نظرًا لاستهلاكه الشره للمياه، ما اضطره لشراء جزء من احتياجاته من السوق، ومع ارتفاع سعر الكيلو إلى أكثر من 30 جنيهًا ازداد عبء إطعام الأفواه الثمانية.
تلقي أزمة المياه بظلالها على الزراعة المصرية، مع وقوع البلاد تحت خط الفقر المائي، وفق مؤشرات دولية، وتتزايد الأزمة في ظل تهديدات سد النهضة الإثيوبي.
ورغم أن البرتقال أكثر شراهةً في استهلاك المياه لا توجد عليه قيود مماثلة لتلك المفروضة على الأرز، ما قد يعزى لمحدودية مساحة زراعته ودوره في جلب حصيلة من إيرادات التصدير.
يكشف هذا التحقيق كيف تراجع إنتاج الأرز تحت ضغوط تقييد الزراعة، في الوقت الذي انتعشت فيه زراعة البرتقال، التي يستفيد منها نخبة من كبار المزارعين.
كيف تغيرت الأمور بعد 2018
"قرار تقليص مساحات زراعة الأرز وفرض غرامات مالية تصل إلى 10 آلاف جنيه على المخالفين كان صدمة كبيرة بالنسبة لي ولباقي مزارعي قريتي، حيث اضطررنا لخفض زراعة الأرز من ثُلثي مساحة أراضي القرية إلى النصف تقريبًا"، كما يقول أبو سمرة لـ المنصة.
بدأت القيود على الأرز في 2018 مع صدور قرار من وزير الزراعة بخفض المساحات المزروعة، وتم تقنين هذه القيود مع صدور القانون رقم 147 لسنة 2021.
"المساحة المقررة لزراعة الأرز، بحكم قرار وزير الزراعة، مليون و74 ألفًا و200 فدان"، كما يقول رئيس قطاع الخدمات والمتابعة بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي الدكتور عباس الشناوي، لـ المنصة.
وتعكس البيانات الرسمية زيادة المساحات المزروعة من الأرز عن الحد القانوني، حيث يبلغ إجماليها 1.1 مليون فدان، لكنها تنخفض بقوة عن مستوياتها في 2006 عندما كانت عند 1.6 مليون فدان.
وفرض القانون عقوبات صارمة تضمن إنفاذ مواده، تشمل الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد عن 10 آلاف عن الفدان أو كسر الفدان، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
كان لسياسات تقييد الأرز انعكاسات اجتماعية بالغة، يمكن التنبؤ بها من واقع سيطرة الحيازات الصغيرة على زراعة المحصول، حيث يبلغ عدد المزارعين الذين تتراوح المساحات التي يزرعونها بين فدان وحتى ستة أفدنة على أقصى تقدير نحو مليون و200 ألف مزارع، وفق بيانات آخر تعداد صادر عن وزارة الزراعة في 2010، ما يجعل زراعة الأرز واحدة من أكثر الأنشطة التي تمس حياة الملايين من الأسر الهشة.
"الأرز غذاء رئيسي ومحصول استراتيجي يقوم على زراعته ما يزيد على مليون مزارع، كلها أنماط اقتصادية صغيرة بحيازات تترواح من فدان إلى 6 أفدنة، يستفيد منها قرابة الـ6 ملايين مواطن"، كما يقول الباحث فى مجال البيئة والتنمية عبد المولى إسماعيل، لـ المنصة.
ساهم الحد من زراعة الأرز في زيادة الميل لاستيراده، ما زاد ضغوط العملة الصعبة على الاقتصاد في مجمله، ووصلت واردات الأرز إلى ذروتها في 2019 لتصل إلى نحو 976 ألف طن، قبل أن تتراجع خلال الأعوام التالية، لكن مصر ظلت مستوردًا صافيًا لهذا المحصول، وفقًا لتحليل بيانات نشرة التجارة الخارجية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام 2019.
البرتقال أكثر حظوة وأقل عبئًا
وحسب بيانات وزارة الزراعة، فإن حاصلات البرتقال أكثر شراهة من الأرز في استهلاك المياه، لكنها لم تشهد فرض أي قيود على زراعتها خلال السنوات الماضية، ما سمح بزيادة المساحة المنزرعة من 292 ألف فدان في 2019 إلى 330 ألف فدان في 2021 بزيادة 13%، مع ارتفاع إنتاجيته 106 آلاف طن خلال نفس الفترة.
وخلال سنوات تقييد زراعة الأرز، كان استهلاك هذا المحصول من المياه يتراوح ما بين 6294 مترًا مكعبًا و7055 مترًا مكعبًا للفدان سنويًا، بينما تراوح استهلاك البرتقال ما بين 6850 مترًا مكعبًا و8777 مترًا مكعبًا سنويًا، وفقًا للنشرة السنوية لإحصاء الري والموارد المائية الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 2020. وبناء على متوسطات استهلاك المياه الصادرة عن وزارتي الزراعة والموارد المائية، يستهلك فدان الأرز 6 آلاف متر مكعب من المياه سنويًا، بينما يستهلك فدان البرتقال 7 آلاف و500 متر مكعب سنويًا.
"بافتراض أن فدان البرتقال الواحد يحتوي على 240 شجرة، فإن كل كيلو من البرتقال المزروع يحتاج لنحو متر ونصف المتر مكعب من المياه"، حسب الباحث بمجال البيئة، عبد المولى إسماعيل.
وتكشف المُقننات المائية أيضًا عن تراجع حصة الأرز من المياه لتصل إلى 6.63 مليون متر مكعب خلال 2021-2020 بدلًا من 10.06 مليون متر مكعب في 2006 تقابلها زيادة حصة البرتقال ليسجل 2.5 مليون متر مكعب بدلًا من 1.6 مليون متر مكعب في ذات الفترة.
لكن يظل البرتقال أقل استهلاكًا للمياه في المجمل، لأن المساحات المزروعة منه تعادل ثلث مساحة الأرز تقريبًا، وهو ما قد يكون أحد التفسيرات لتركيز الدولة على الحد من الأرز.
لكن أستاذ الموارد المائية، نادر نور الدين، يرى أن الأرز بالرغم من استهلاكه الكبير للمياه يظل ضمن السلع الأساسية التي نحتاج لتعزيز توفيرها محليًا، "شعرنا مؤخرًا بأثر ضعف الاكتفاء محليًا من حاصلات سلع أساسية مثل البصل والبطاطس، التي قفزت أسعارها لـ25 جنيهًا للبصل و20 جنيهًا للبطاطس".
كما تعكس بيانات التعداد الزراعي لعام 2010 ارتفاع عدد مالكي الحيازات الكبيرة في مجال زراعة البرتقال، مقارنة بالأرز، فعدد من يمتلكون أقل من 50 فدانًا يتجاوز ألف مالك، مقابل 579 مالكًا في حالة الأرز، ما يجعل من تعزيز إنتاج البرتقال إفادة لفئة واسعة من كبار الملاك.
وحسب دراسة بعنوان الزراعة التعاقدية كمدخل للتنمية الزراعية المستدامة، صادرة عن معهد التخطيط القومي، فإن زراعات البرتقال تتسم بالتركز الجغرافي والصنفي والحيازي، لذا فإن نحو 50% من مساحات البرتقال تنتمي إلى 8.7% من الحائزين، الأمر الذي يجعل فئة ضيقة من المزارعين تستفيد من انحياز الدولة للبرتقال، على حساب التأثيرات الاجتماعية الواسعة لتقييد زراعة الأرز.
السر في التصدير
خلال السنوات الأخيرة، عانت البلاد من أزمة ضعف تدفقات النقد الأجنبي، زادت حدتها منذ 2022، ما جعل النشاط التصديري للبرتقال يحظى باحتفاء من مسؤولي الدولة، خاصة مع كون مصر أكبر مصدر لهذا المحصول عالميًا، ما قد يكون تفسيرًا ثانيًا لأسباب الانحياز لعدم تقييد زراعته.
"ستظل مصر تحتل المراكز الأولى في تصدير البرتقال لعشرات السنوات المقبلة، لأننا ننتج البرتقال بكميات ضخمة"، كما يقول رئيس لجنة الموالح السابق بالمجلس التصديري للحاصلات الزراعية، محمد عبد الهادي.
يضيف عبد الهادي أن ما يعزز من التوسع في زراعة البرتقال استفادته من برنامج دعم الصادرات، الذي تتولى تنفيذه وزارة المالية.
انحياز الدولة للبرتقال يمثل انحيازًا لشريحة ضيقة من الشركات، فحسب بيانات التجارة الخارجية الصادرة عن الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، تستحوذ 30 شركة، نسبتها 4.7% من إجمالي الشركات المصدرة للموالح، على 52.6% من إجمالي صادرات هذا المحصول.
وحسب رئيس لجنة الموالح بالمجلس التصديري للحاصلات الزراعية محمد خليل، تستحوذ أكبر 10 شركات مصدرة على نسبة كبيرة من الصادرات، على رأسها شركتا أجرين بـ120 ألف طن، وأجرولاند بـ70 ألف طن.
الأثر البيئي للانحياز للبرتقال
"في الوقت الذي يمثل فيه الأرز أهميةً كبيرةً للأمن الغذائي المحلي في مصر، فإن الاتجاه القوي لتصدير البرتقال يجعله تهديدًا للأمن المائي في مصر بالنظر لكثافة استهلاكه للمياه"، كما يقول إسماعيل.
بجانب دوره الغذائي، يشير إسماعيل إلى الأهمية البيئية لزراعة الأرز، نظرًا لإسهامه في منع تسرب أملاح البحار للحفاظ على مساحة 3 ملايين فدان من أراضي الدلتا.
"تساعد زراعة الأرز على زيادة خصوبة التربة لأن عمر محصوله 4 إلى 5 أشهر في الموسم الصيفي ما يسمح بزراعة محصول شتوي مثل البرسيم، بعكس البرتقال الذي يستمر طول العام، 12 شهرًا، ما يسبب إجهادًا للتربة"، يضيف إسماعيل.
وتُظهر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تراجع المساحات المزروعة من الأرز في المحافظات الأكثر إنتاجًا؛ الدقهلية وكفر الشيخ والشرقية، خلال الفترة من 2018-2021.
بينما كانت مساحات زراعة البرتقال تشهد توسعات كبيرة في محافظتي البحيرة والإسماعيلية خلال نفس الفترة.
ويدافع رئيس قطاع الخدمات والمتابعة بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي عن زراعة البرتقال قائلًا إنه "يُزرع في الأراضي الصحراوية، وبالتالي يستفيد من طبيعة الأراضي المصرية الرملية".
ويضيف أن "الموالح وعلى رأسها البرتقال هي الفاكهة الشعبية لكل مواطن، البرتقال له فائدة غذائية وصحية ونسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض".
كما يشير المتحدث الرسمي باسم وزارة الري والموارد المائية محمد غانم إلى أن الدولة تسعى حاليًا لتجاوز مشكلة الشح المائي من خلال التوسع في استخدام مياه الصرف، حيث يتم إعادة استخدام 21 مليار متر مكعب منها سنويًا.
ساهمت موجة التضخم الأخيرة في رفع تكاليف الزراعة، وبالتالي لم يعد أبو سمرة يعاني فقط من ارتفاع سعر الأرز الذي يضطر لشرائه من السوق، ولكن ربحه من بيع جزء من المحصول تراجع أيضًا، مع اقتراب تكلفة زراعة الفدان من 15 ألف جنيه، في مقابل عائد بقيمة تقارب 35 ألف جنيه.
تجتمع الأزمات على حياة عائلة أبو سمرة، كواحدة من ملايين الأسر التي تنتظر الدعم من الدولة، فلا تجد منها سوى التمييز في المعاملة لصالح رجال الأعمال.