لا نزال كمجتمع نحبو عندما يتعلق الأمر بإدراك مفاهيم مثل العنصرية والطائفية. لسنوات طويلة استسهلنا انتقاد "الغرب" في تعامله مع المختلفين في اللون أو العرق. واستمرأنا إدانة حكومات وأحزاب اليمين العنصري المتطرف وتوجهاته، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين أو بأهل الجنوب الفقير.
مع كل حادث عنصري في أوروبا أو الولايات المتحدة كنا نرى دليلًا جديدًا على تحيز الغرب وعنصريته الدفينة. لكن هذا، للأسف والغرابة، لم يعنِ أبدًا أننا سنكون أفضل عندما يتعلق الأمر بالنازحين الباحثين عن الأمن والأمان.
شهد مرور أهل السودان بمحنة الحرب، إعادة إنتاج فج لحجج اليمين الغربي المتطرف التي طالما رفضناها. وعلى نفس مسطرة هذا "الغرب العنصري الفاشي" وبنفس مبرراته، طالب كثيرون بإغلاق الحدود في وجه ضحايا المحنة من أشقائنا في السودان، بدعوى حماية الموارد، والثقافة، بل وبحجة الخوف على "حضارتنا المصرية القديمة"!
هناك حاجة ملحة لبدأ حوار واسع لتطوير إدراكنا الجمعي لهذه المفاهيم المحورية، ولنفهم أننا نعاني ومنذ زمن طويل من ممارسات عنصرية كثيرة بالذات ضد أصحاب البشرة السوداء، لا ننتبه لها ولا نسلط الضوء عليها.
السيدة التي رفست الأطفال
دعنا نبقى قليلًا مع هذا "الغرب" الذي طالما نُعِتَ بالكفر. في سبتمبر/أيلول عام 2015 التقطت كاميرات مصوري التليفزيون مشهدًا غريبًا على الحدود الصربية المجرية أثناء محاولة مجموعة من اللاجئين السوريين الهرب من الشرطة وهم يعبرون الحدود. أظهرت الكاميرات صورًا للمصورة المجرية بترا لازلو، التي كانت تغطي الأحداث، وهي "ترفس" أطفالًا سوريين يحاولون الهرب مع ذويهم.
في أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت فيما بعد عبر السوشيال ميديا، ظهرت لازلو وهي تمد ساقها أمام أب سوري يجري وهو يحمل ابنه بيد، وباليد الأخرى حقيبة فيها القليل الذي تبقى له من حطام الدنيا. تعثر الرجل وسقط وعلى وجهه أمارات الذعر.
أدينت المرأة وفعلها بشكل واسع. ورأى الناس في عالمنا العربي والإسلامي في هذا المشهد دليلًا دامغًا على عنصرية الغرب ونيته المبيتة للنيل من الإسلام والمسلمين، واستعلاء الشمال الغني على الجنوب الفقير. انهمرت التعليقات وقتها على السوشيال ميديا تحكي القصة وتستشهد بها على ما هو معلوم من الغرب بالضرورة: هي العنصرية ولا شيء غيرها.
تجاهل كثيرون أن من كشف الحدث وهيَّأ للرأي العام إدانته هو هذا "الغرب الكافر" ذاته، وأنه هو الذي قاد حملة الاستهجان التي دفعت محطة التليفزيون التي كانت تعمل فيها لازلو، لفصلها على الفور. وهذا على الرغم من أنها محطة يمينية معروفة.
اعتذرت لازلو عن فعلتها تحت الضغط، إلا أن حكمًا صدر عليها بعد الحادث بأن تبقى تحت المراقبة لمدة ثلاث سنوات (عام 2018 ألغت المحكمة العليا في المجر الحكم وأعادت تصنيف الحادث باعتباره جنحة. وأكدت أن ما فعلته يعتبر خرقًا أخلاقيًا لكنه لا يصنف قانونيًا كجريمة). صرحت المصورة أكثر من مرة بأن مستقبلها ضاع وأنها عاجزة عن العثور على عمل وتفكر جديا في الهجرة إلى مكان لا يعرفها فيه أحد.
أما السيد أسامة عبد المحسن، الأب السوري الذي كان يحمل ابنه وحقيبة سفره، فقد استقر في إسبانيًا لاحقا بدعوة من إحدى المؤسسات الرياضية التي منحته وظيفة كمدرب لكرة القدم. صار الرجل محط الأضواء، وحظي بلقاءات عدة مع وسائل الإعلام المختلفة. وتلقي دعوة لزيارة نادي ريال مدريد الشهير، ودخل ابنه زيد استاد سانتياجو برناباو يدًا بيد مع لاعب الكرة الأشهر كريستيانو رونالدو وشاركه الجري في الملعب قبل إحدى المباريات.
كشفت أزمة الحرب في السودان أسوأ ما فينا، وهو العنصرية المتجذرة تجاه الأكثر فقرًا والأكثر سمرة
أوضاع متردية وصمت متواطئ
حدث كل هذا في واقعة عابرة لم يُضَر فيها أحد، ولم يسقط فيها ضحايا. المجتمعات الأكثر نضجًا تعرف العنصرية، وتعترف بأنها موجودة، وتتعامل معها علنًا. ترفضها وتدينها وتضع المعايير لكشفها والحد منها. وتمنح ضحاياها فرصة للشكوى وطلب العون والمساعدة.
في حالتنا يختلف الوضع رغم تردي الأوضاع فيما يتعلق باللاجئين والمهاجرين خاصة لو كانوا من ذوي البشرة السمراء. ومعظم الجرائم العنصرية لن تسمع عنها في مصر إلا من خلال الإعلام الخارجي، وفي معظم الأحيان لن يأبه أحد.
خذ مثلا لذلك ما نشرته الجارديان البريطانية عام 2019 عن تجارة كلى السود المزدهرة في مصر في ظل التضييق الأمني على المهاجرين من إفريقيا، وعن حالات بعينها عانى فيها مهاجرون من السودان ومن دول إفريقية أخرى، تم إرغامهم على بيع الكلى بالضغط والتهديد. هل اهتم أحد؟ لم يحدث!
صحيفة ليبراسيون الفرنسية كتبت في العام ذاته عن نفس القضية مشيرة إلى تورط مسؤولين وأطباء في مؤسسات مختلفة، في قضية بيع كلى السودانيين والأفارقة وإجراء العمليات. وكالعادة لم يتحرك أحد ولم يناقش أحد ولم يُعاقَب أحد.
حتى الواقع اليومي المزري الذي تعيشه المرأة والفتاة السمراء في شوارعنا، لا نكاد ندري عنه شيئا. اقرأ ما دوّنته ملكة جمال سابقة للسودان، عن معاناتها اليومية، في مدونة كتبتها بعنوان يوميات بنت سمراء، أو اسمع شيئًا عن معاناة الأطفال السمر أو حتى الكبار في مقاطع الفيديو المرفقة لنفكر سويًا في كيفية نشر الوعي بمدى سلبية هذه الممارسات المتحرشة والقبيحة. كل هذا تذيعه وتناقشه وسائل إعلام أغلبها غير مصري، وسط تجاهل شبه مطلق من إعلامنا ومسؤولينا.
ولمَ نذهب بعيدا؟
في عام 2005 وفي وضح النهار ارتكبت مذبحة في ميدان مصطفى محمود في قلب القاهرة راح ضحيتها العشرات عشية العيد، وسط ترحيب من أغلب سكان حي المهندسين الذين انزعجوا من تجمع هؤلاء الفقراء أمام مقر مفوضية اللاجئين. لم تفكر السلطة وقتها في المساعدة في حل مشكلتهم وكان الحل السهل هو فض اعتصامهم بالقوة الغاشمة مما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى. حتى هذه اللحظة، لم يجرِ تحقيق، أو يحاسب مسؤول، أو يصدر اعتذار.
بين المشاعر الطيبة ومعالم العنصرية
كشفت أزمة الحرب في السودان أسوأ ما فينا، وهو هذه العنصرية المتجذرة بين قطاعات ليست قليلة، تجاه الأشد فقرًا والأكثر سمرة.
على السوشيال ميديا انهالت الشتائم على السودانيين "الكارهين لمصر"، وعلى كل من يطالب بفتح الحدود وإلغاء التأشيرات وتسهيل العبور للنازحين والفارين من جحيم الحرب، بدعوى الخوف على الوطن ومقدراته وثقافته وتراثه وتاريخه!
مئات التعليقات هاجمت جمعية مرسال بعدما عرضت مساعدة أسر النازحين بتقديم ألبان الأطفال التي عجزوا عن توفيرها لأولادهم. بل ودعا عضو في لجنة الصحة بمجلس النواب، النيابة العامة المصرية وأمن الدولة لسرعة القبض على رئيسة المؤسسة هبة راشد، هي والعاملين معها بالمؤسسة الخيرية، لـ "جمعهم تبرعات من المصريين وتقديمها للاجئين بينما يعاني المواطنون المصريون من نقص حليب الأطفال". وأضاف الرجل إلى ما كتبه هاشتاج يقول: #غلق_المفوضية_وطرد_اللاجئين!
ربما كان الشيء الإيجابي الذي خرج في خضم ردود الأفعال السلبية، هو إثارة هذه القضية الشائكة بوضوح لا يقبل الشك، من قبل كتاب ونشطاء وتيارات شعبية أظهرت كمًّا لا يستهان به من المشاعر الطيبة، وقادت مبادراتٍ للدعم والمساعدة البنَّاءة، في النوبة ومدن الجنوب، ترحب بالأهل من السودان وتكرر ترحيبها بالأهل من سوريا، وبكل من يرى في مصر وشعبها ملجأ وأمانا.
لا تحيا مصر إلا بإنسانيتها ورقي شعبها الذي احتضن شعوبًا وثقافات كثيرة على مدى تاريخه، ولن تحيا مصر بنزعات الشوفينية والعنصرية والانغلاق، التي تُقزِّمنا أكثر فأكثر.